وصف الكتاب:
كانت وظيفة العمارة الأساسية واضحة على الدوام للجمهور العريض: السكن. لكن بين الوظيفة المعمارية التي هي بداهة وبين منظومة المعايير الخلقية التي تشتغل العمارة بين ظهرانيها ثمة فسحة للتأمل. لسنا هنا في مقام الوظيفة لكن في سلّم معياري، بل أخلاقي، للعمارة. جماليات العمارة نفسها تتكيف، على ما يبدو، لطريقة استخدام الكائن الآدمي للمساحات والفراغات، بعبارة أخرى لغياب أو لحضور جسد الساكن في فضاء مخصوص للسكن، بكل ما ينطوي عليه هذا الجسد من الحشمة أو التبذّل. ثمة جسدان شخصيان فاعلان في الفضاء المعماري: جسد شخصي عضوي (فيزيقي) بارز للعيان، وجسد اجتماعي مستتر. جسدان متداخلان من دون شك ومعقدان. ولكي لا نبدو موغلين في التأمل النظري نشير إلى أن سين أو صاد من القاطنين في أيما فضاء معماري هو ذاتٌ فريدة، وفي الوقت نفسه هو شخص اجتماعي يراعي اعتبارات عامة مثل الجيرة والتفاعل الاجتماعي في هذا الفضاء المشترك. بين الذاتي والمشترك تنطرح أسئلة من طبيعة سوسيولوجية ذات شأن، خاصة في العالم العربي حيث الذاتي ثم العائلي والقبلي ترتقي كلها أحياناً إلى مصاف القانون العرفي الصارم الذي يحكم مجمل سلوك الأفراد، بينما يعبّر المشترك بينهما عن (الضرورة) في مقاسمة الآخرين الفضاء الإنساني العريض، وهذه إحدى قوانين الاجتماع البشري المعروفة منذ إخوان الصفا ومن بعدهم ابن خلدون. تصير اليوم مشاطرة الفضاء السكني، والمعماري بمعناه الضيق (في بناية حديثة مثلاًً) قاعدة عامة أكثر من أي وقت مضى وذلك بحكم الدخول الجماعي الإجباري في ما نسميه عادةً بعالم (الحداثة) بأشكالها واستخداماتها واستعاراتها: العمارة الحديثة وقيادة السيارة واستخدام الإنترنيت وغير ذلك.