وصف الكتاب:
إذا كانت الرسائل تقرأ من عناوينها، والأعمال الفنية يحكم عليها من مقدماتها، فقد اختار المخرج جورج الهاشم، ان يحاصر المقبلين لحضور افتتاح مسرحيته «زمن الجراد» (تعرض حالياً في «مسرح مونو») قبل ان يدخلوا قاعة العرض بصوت جراده وأزيزه الغريب. ولما كان الحضور كبيراً والناس بالكاد يتبين واحدهم الآخر، وهم ينتظرون ان يفتح باب صالة العرض، فقد كان من الصعب معرفة مصدر الصوت الغريب والمريب الذي يصم الآذان ويطبق على الصدور. وظن البعض ان ثمة عطلاً في جهاز إلكتروني ما يتسبب بهذا الضغط المزعج الذي يدعو للانهيار أكثر مما يدعو للانبهار. ولكن ما ان فتح باب الصالة، وبدأ الناس بالدخول، ورأوا ان ثمة بقرب هذا الباب من اقتعد الأرض نافخاً في آلة هي التي تجلب كل هذا الضجيج تملكتهم الصدمة. ورغم ان الجنون فنون إلا ان الفن الذي يجلب النكد ليس بالضرورة محبباً إلى نفوس الناس وآذانهم. وبما ان المسرحية هي عن الجراد الذي يأكل الأخضر واليابس وعن ذاك المتنسك الكبير (الممثل أنطوان كرباج) القابع في قمة الجبل يقاوم ويصمد ويحاول ان يبقى على نقائه رغم انفضاض مريديه عنه، فقد ارتأى المخرج جورج الهاشم ان يحول المتفرجين إلى صابرين ونساك بدورهم، يرقبون وصول الجراد الذي اقتصر على جرادتين رمزيتين وهما الراهب ألكسيس (شادي الزين) والتوب موديل كريستال (شيرين كرامة). في البدء يظهر ان لا شيء غير الظلام وبقعة ضوء صغيرة تنسكب على المتنسك بشعره الأسود الطويل جالساً وراء طاولة عليها بعض الأواني، مطرقاً زاهداً لا يهزه كثيراً صوت الراهب ألكسيس الذي يقتحم عليه الدير، وقد فرغ إلا منه طالباً النجدة. الحكاية بسيطة والنص ليس غنياً وشهياً بالقدر الذي يحتمل ساعة ونصف يحاول فيها الراهب / الجرادة الهاجمة بغوايتها إزاحة الناسك عن طهرانيته، تتلوه كريستال (بعد ما يقارب الساعة) بملابسها الملتصقة ببدنها وشعرها الأشقر الطويل الذي لا يشبه في شيء رغم التشابه في الطول، شعر الناسك. كريستال هي حواء الآتية بالفتنة إلى قلب المعبد، والمرأة التي بمقدورها ان تفعل في نفس الناسك ما فشل في تحقيقه الراهب على براءة سحنته وقدرته التمويهية. إذن القصة كلاسيكية تضع الخير في مقابلة سافرة مع الشر، والصامدين في مواجهة مع الساقطين، وأقوياء النفوس في اختبار صعب أمام إغراء ضعاف الإرادات وألاعيبهم. الجراد هاجم ليأكل كل شيء قيل للناس فهربوا، وحتى رهبان الدير إلا هذا المتعبد في رأس الجبل. لكن الجراد وصل متنكراً فلا هو جند مدجج بالسلاح التقليدي ولا هو جراد بالمعنى الذي نعرفه فيكافح بما نملك. الشر له ألف صورة وصورة لكن الناسك الذي تخترق عينا روحه جوهر الأشياء ولا يكتفي بسطوحها وظواهرها لا يسقط بخديعة الصور. كل هذا كان يمكن ان يقال بلغة مسرحية تتوافر لها شروطها الفنية الآسرة من اللغة التي كان يمكنها ان تتلطّف بشيء من الطرافة إلى الإضاءة التي بدت عتمة مزعجة لا تكسرها بقع الضوء التي عجزت أحياناً عن إضفاء الحياة على المشاهد، إلى الصوت الذي تردى في أحيان أخرى ليصير خافتاً بما لا يسمح بسماعه. أما المربعات الثلاثة الكبيرة المنتصبة كألواح على جانبي المنصة ووسطها فقد أريد لها ان تحجب ما يمكن تصويره على انه العالم الخارجي، وتتغير ألوان المربعات الضوئية الملونة بحسب المناخات الروحية التي تسود الدير، ولا يضير ان تصير، بحكم الحاجة، شاشات لصور تدعم المشاهد، لكنها لعبة سينوغرافية بقيت وكأنها إضافات ناتئة غير مندمجة في سياق العمل أو مندغمة فيه. لا بد أن كثيرين جاءوا «زمن الجراد» لما لأنطوان كرباج من رصيد كبير في عالم المسرح والتمثيل، وأنطوان كرباج مؤدٍ بقي متميزاً في «زمن الجراد»، قوياً، صلباً، في حركته عنفوان، وفي صوته صدى التنسك الذي لا يتزحزح ولا يلين. وبكلام آخر فإن أنطوان كرباج أنقذ العمل، في مكان ما، وبقي الركيزة اللامعة فيه، ليس فقط لأن المؤديين الآخرين تأخرا عن اللحاق به ولكن لأن مجمل العناصر الفنية لم تكن قادرة على دفعهما إلى الأمام، فيما استطاع كرباج ان يمارس طغياناً في الحضور كانت «زمن الجراد» تحتاجه لينهض بها. وتقدم هذه المسرحية في إطار احتفالات تكريمية تقام للكاتب والمخرج اللبناني غابريل البستاني تشمل معرضاً خاصاً بأعماله وعرضاً لبعض من أفلامه، ولقاء حول عمله «زمن الجراد»، كما ان «دار النهار» تشارك بهذه المناسبة بإصدار أربعة من نصوصه باللغتين العربية والفرنسية. لكن هذا كله لم يكن ليمنع المخرج جورج الهاشم من ان يخرج بنص المحتفى به من حيزه الأدبي المحض إلى نصٍ تعاد كتابته للمسرح بحيث يصير المسرح مسرحاً للفرجة ومتعة للسمع والبصر ويبقى الأدب أدباً وواحة خصبة للتأمل وغسل أدران الروح.