وصف الكتاب:
إن بصيرة العقل ليست قدرة من نوعية القدرات التي إما تتوافر بالكلية أو تنتفي بالكلية، ليست شيئًا إما أن يكون لديك أم لا، بل لأنها نوع من أنواع الخبرة فيمكننا تطويرها عندما نبذل الجهد والوقت والممارسة. يولد معظم الناس وهم يمتلكون قدرة داخل مخاخهم على تطوير مهارة بصيرة العقل، لكن الدوائر العصبية التي تُشكل أساسها تحتاج إلى تجارب للتطور على نحو مناسب. بالنسبة للبعض - مثل المصابين بالتوحد والحالات العصبية المشابهة9- قد لا تتطور الدوائر العصبية الخاصة بمهارة بصيرة العقل بشكل جيد حتى في ظل وجود أفضل رعاية. ومع ذلك، فإن القدرة على استكشاف العقل تتطور لدى معظم الأطفال من خلال التفاعلات اليومية مع الآخرين، وخاصة من خلال التواصل الواعي مع الآباء والمربين. عندما يكون الكبار في انسجام مع الطفل، وعندما يقدمون للطفل صورة دقيقة لعالمه الداخلي، فإنه يستشعر عمل عقله بوضوح، وهذا هو أساس بصيرة العقل. يعمل علماء الأعصاب الآن على تحديد10 دوائر المخ التي تشارك في هذا التفاعل العميق واستكشاف كيف أن انسجام المربي مع العالم الداخلي للطفل يحفِّز تطور تلك الدوائر العصبية. إذا كان الوالدان لا يتسمان بالتجاوب أو متباعدين أو مربِكين في ردود فعلهما، فإن افتقارهما إلى الانسجام يعني أنهما لا يستطيعان أن يقدما للطفل صورة دقيقة لعالمه الداخلي. تشير الأبحاث في هذه الحالة إلى أن منظور الطفل لمهارة بصيرة العقل قد يصبح مبهمًا أو مشوهًا. قد لا يكون بوسع الطفل عندئذ إلا رؤية جزء فقط من البحر الداخلي أو رؤيته غامضًا، أو قد يكتسب الطفل منظورًا يرى من خلاله بشكل جيد ولكنه يكون هشًّا، ويمكن أن يتعطل بسهولة بسبب التوتر والمشاعر القوية. النبأ السار هو أنه مهما كان تاريخنا المبكر، فإن الأوان لم يفت بعد لتحفيز نمو الألياف العصبية التي تُمكِّن مهارة بصيرة العقل من الازدهار12. ستلتقي قريبًا برجل يبلغ من العمر اثنين وتسعين عامًا استطاع التغلب على طفولة مؤلمة ومعقدة وأصبح خبيرًا بمهارة بصيرة العقل. هنا نرى دليلًا دامغًا لاكتشاف مثير آخر لعلم الأعصاب الحديث: وهو أن المخ لا يتوقف عن النمو أبدًا استجابةً للتجارب التي يمر بها، وهذا ينطبق أيضًا على الأشخاص الذين تمتعوا بطفولة سعيدة، فحتى إذا كنا قد حظينا بعلاقات إيجابية مع المربين وأولياء الأمور في طفولتنا - وحتى إذا كنا قد كتبنا كتبًا عن هذا الموضوع، فيمكننا طوال حياتنا مواصلة تطوير حاستنا السابعة الحيوية وتعزيز الروابط والتكامل؛ تلك الجوانب التي هي في صميم سلامتنا العامة. سنبدأ رحلتنا في الجزء الأول من هذا الكتاب باستكشاف المواقف التي تغيب فيها المهارات الحيوية الخاصة ببصيرة العقل. تكشف هذه القصص كيف أن إدراك العقل بوضوح والقدرة على تغيير أسلوب عمله هما عنصران أساسيان في الطريق نحو تحقيق حالة السلامة. الجزء الأول هو أكثر قسم في الكتاب يغلب عليه الطابع النظري، حيث أشرح المفاهيم الأساسية، وأقدم للقراء مدخلًا إلى علم المخ، وأعرض تعريفات عملية للعقل والصحة العقلية. نظرًا لأنني أعلم أن قرائي ستكون خلفياتهم الثقافية واهتماماتهم على درجة كبيرة من التنوع، فأنا أتفهم أن بعضكم قد يرغب في تصفح هذا القسم بقراءة سطحية سريعة أو حتى تخطي الكثير من هذا المحتوى من أجل الانتقال مباشرةً إلى الجزء الثاني الذي سأغوص بعمق من خلاله في قصص من واقعي العملي، والتي توضح الخطوات المتبعة في تطوير مهارات بصيرة العقل. هذا هو الجزء من الكتاب الذي أشارك فيه المعلومات والمهارات العملية التي ستساعد الناس على فهم كيفية تشكيل عقولهم على نحو يتسم بالصحة. ويوجد في نهاية الكتاب ملحق يلخص المفاهيم الأساسية ومجموعة من الملاحظات الختامية مع المصادر العلمية التي تؤيد هذه الأفكار. يبدأ استكشافنا لمهارة بصيرة العقل بقصة عائلة غيَّرت حياتي ومنهجي الكامل في العلاج النفسي، فالتفتيش عن طرق لمساعدتهم ألهمني بالبحث عن إجابات جديدة لبعض الأسئلة المضنية حول ما يحدث عند غياب مهارة بصيرة العقل. وقد قادني ذلك أيضًا إلى بحث عن الأساليب التي من شأنها أن تُمكننا من استعادة مهارة بصيرة العقل وإعادة تكوينها في أنفسنا وفي أطفالنا وفي مجتمعاتنا. آمل أن تنضم إليَّ في هذه الرحلة إلى البحر الداخلي؛ إذ داخل تلك الأعماق يكمن عالم شاسع من الإمكانات.