وصف الكتاب:
يحتل النص النحوي في الثقافة العربية مكانة هامة في التقعيد للظاهرة اللغوية، فالنحوي لا يخترع القاعدة النحوية وإنما يقعد لها، اعمالا للقياس على نص القرآن الكريم، أو الحديث النبوي، أو الشعر أو الأمثال، أو تفعيلا للسماع عن العرب المشهود لهم بالفصاحة والسليقة التي لم تجرفها تغيرات التمدن والحضارة، وهذا الأمر محكوم بزمان. ولهذا فإن النص النحوي بحاجة إلى دراسته من منظور البلاغة الحديثة كما عند بيرلمان وتتتكا اللذين شكل كتابهما ( traite de l’argumentation la nouvelle rhétorique)1958 مدخلا جديدا في تحليل الآليات اللغوية والتداولية التي تساهم في حجاجية واقناعية الخطاب الطبيعي. اذا كانت الخلافات النحوية بين المدارس تمليها اعتبارات فهم وتأويل الظاهرة اللغوية، الذي هو أمر مكفول لكل مشتغل على اللغة الطبيعية، فإن دراسة الحجاج النحوي مدخل لفهم الكثير من الخلفيات المعرفية التي تحكمت في نحو سيبويه (ت180هـ) في “الكتاب”، ونحو ابن هشام الأنصاري(ت761هـ) في “مغني اللبيب عن كتب الأعاريب”، وابن مضاء القرطبي(ت592هـ) في ” الرد على النحاة”. وقد شكلت نظرية العامل مدار خلاف النحاة والكلاميين وفقهاء المذاهب، وذلك لارتباطها بالثقافة والاعتقاد وطريقة تصور الكون والوجود، فإذا كان سيبويه يدافع عن نظرية العامل، ويجعلها أس كتابه، فإن ابن مضاء القرطبي الظاهري يرفضها ويعتبرها سببا في فساد النحو وأهله. سنحاول استثمار اقتراحات الدكتور محمد مشبال البلاغية والحجاجية في قراءة نص نحوي للظاهري الأندلسي ابن مضاء القرطبي (ت592هـ[1])، هو “الرد على النحاة” فقد انطلق ابن مضاء من حجج متنوعة، متكئا على خطاب بلاغي وأسلوبي قوي، جعلنا نسمه ببلاغة الرد، اعتبارا أن التحليل البلاغي هو الفضاء الأرحب لتحليل حجاجية النص، وايمانا منا بتصور الباحث محمد مشبال للبلاغة بكونها:” صفة لأي خطاب يوجه اهتمامه نحو التعبير ويتوخى إحداث وظيفة تأثيرية زائدة على وظيفة الاخبار، وهي توجد في كل أنماط الخطاب اللغوي؛ في القصة والقصيدة والشعار والموعظة والدعاية واللغة وعناوين الأفلام والأمثال وغيرها”[2]. تأسيسا على هذا المنطلق النظري فإننا نعتبر نص ” الرد على النحاة” لابن مضاء القرطبي بما يشكله من مرحة مهمة في تاريخ النحو العربي اتسمت برفض العوامل والعلل الثواني والثوالث، يشكل ” بلاغة الرد” نظرا لما توسل إليه ابن مضاء من قوة أسلوبية، وتماسك نصي. وإذا كان الباحث محمد مشبال أثناء اشتغاله على نصوص الجاحظ (ت255هـ)، أكد علاقة البلاغة بالهوية[3]، فإن بلاغة رد ابن مضاء القرطبي، تشكل هوية النحوي الأندلسي الظاهري، الذي يُخالف النحويين في المشرق، فقصده أن يحذف ” من النحو ما يستغنى النحوي عنه، وأنبه على ما أجمعوا على الخطأ فيه”، لأن ” القول بأن الألفاظ يحدث بعضها بعضا فباطل عقلا وشرعا، لا يقول به أحد من العقلاء” ولأنه ” لا فاعل إلا الله عند أهل الحق، وفعل الانسان وسائر الحيوان فعل الله تعالى”[4] . سنتناول جوانب بلاغة الرد عند ابن مضاء القرطبي، وعلاقة بلاغته بهويته النحوية العقدية الظاهرية التي يُدافع عنها القرطبي. [1] ابن مضاء القرطبي: هو أحمد بن عبد الرحمان بن محمد بن سعيد بن الحريث بن عاصم بن مضاء، أندلسي ولد بقرطبة 513هـ ، تعلم بقرطبة من شيوخ عصره، تعلم الفقه والأصول والحديث، دخل فاس 550 وعاد إلى قرطبة 560 عاد إلى مراكش بعد جفوة له مع أبي يعقوب فعينه وولاه قضاء بجاية ثم عاد إلى مراكش مرة أخرى وولاه يعقوب قضاء الجماعة، أعفي من منصبه وعاد إلى اشبيلية بالأندلس وانقطع للتدريس، من مؤلفاته ” الرد على النحاة” و” المُشرق” توفي 592 هـ. [2] محمد مشبال، البلاغة والأدب من صور اللغة إلى صور الخطاب، منشورات دار العين، القاهرة، الطبعة الأولى 2010 ص: 62 [3] محمد مشبال، خطاب الأخلاق والهوية في رسائل الجاحظ مقاربة بلاغية حجاجية، منشورات كنوز المعرفة، الطبعة الأولى 2015 ، ص: 217 وما بعدها [4] ابن مضاء القرطبي، الرد على النحاة، تحقيق شوقي ضيف، منشورات دار المعارف، الطبعة الثالثة، د ت، ص: 76 وما بعدها.