وصف الكتاب:
لا تعرف موضوعات الفلسفة موضوعاً يصح أن يثير التساؤل مثلما يصح أن يثيره موضوع الحرية بوصفه أساساً للمسؤولية الخلقية والقانونية، فالحرية مشكلة فلسفية شغلت بال المعنيين بدراسة الأخلاق والقانون منذ القدم، وتميَّزت عن غيرها من المشاكل الفلسفية بأنَّها لازمت كفاح الإنسان الدائب للوصول إلى المجتمع القائم على أساس من الفضيلة والعدل، وهذه المشكلة لم تكن قديماً موضوعة تحت مصطلح (الحرية)، وإنَّما كانت موضوعة تحت مصطلحات الجبر والاختيار، أي إنَّ مصطلحات هذا البحث قد أصابها التطوُّر والتغيُّر كما أصاب أبعاده وقضاياه، وإنَّ تغاير المصطلحات دفع بعض الباحثين إلى الخطأ فقلّلوا من شأن مباحث المسلمين في هذا الميدان، فتغيّر المصطلحات واتساع آفاقها عن ذي قبل لا تمنع أن نقيم موازنة بين المضامين التي وضعت تحتها، فمشكلة حرية الإرادة كان لها شأن خاص في تاريخ الفكر الإسلامي. وتعد من أولى المشاكل العقلية التي استوقفت المسلمين، اتجهت إليها أذهان العامة، وتدارسها الخاصة منذ عهد مبكر، وأضحى هذا الموضوع باباً هاماً من أبواب الدراسات الكلامية وعبّر عنه بأسماء مختلفة، فسمي «خلق الأفعال» و«الاستطاعة» و«الجبر والاختيار» و«القضاء والقدر» وإنَّ مشكلة الحرية كانت كامنة ضمنياً في فكر المعتزلة تحت مصطلح الجبر والاختيار، فقد تناولوها بطريقة غير مباشرة في مبحث التكليف وتحت أصل العدل وخلفوا مادة غزيرة في مشكلة حرية الإرادة. كانت دعامة بحوث الفرق والمدارس الكلامية الأخرى. وانتهت المعتزلة إلى آراء وحلول لا تخلو من جرأة وشجاعة وجهد صادق في التوفيق بين العقل والنقل. وقد أسفرت دراساتهم وتحليلاتهم لمشكلة الحرية عن نظريات لا تخلو من دقة وعمق، وقد أثبتوا للإنسان قدرة وإرادة واختيار، لذلك تراهم رفضوا بشدَّة فكرة الجبرية ولم يستطيعوا أن يهضموها ولاحظوا أنَّ عدالة الله تتنافى مع أن يكون المرء مسؤولاً عمَّا لا يفعل أو يحاسب عمَّا لا يريد. وهم في معرض بحثهم للعدل الإلهي بحثوا في المسلمات المعرفية والمنطقية والمفاهيم العامة التي تستخدم في علم التشريع وفلسفة القانون مثل مفهوم (الفعل) و(النية) و(الإرادة) و(القصد) و(العلية) و(الاختيار) والتي لا يمكن تحديدها في علم جزئي، وذلك ليقيموا عليها دعائم الجزاء والمسؤولية.