وصف الكتاب:
موضوع الكتاب هو دراسة ‘التوجه الديني’، وقد لامس عدة أوتار في أصغريّ (القلب واللسان)، فلطالما رأيت في ‘الدين’ منهاج حياة وفي الرسالة السماوية نور هداية؛ يهتدي بها من يشاء ويضلّ من يشاء، ولو شاء الخالق لهدى الناس أجمعين؛ ليكونوا في الجنة خالدين, وسقطت ‘أمانة’ الاختيار، وضاعت حكمة الوجود الدنيوي، وبطلت حجة أقامها سبحانه على إبليس. وبدا لي أن رجال الدعوة ونساءها – غالبهم أو بعضهم- ارتدوا عمائم الشيوخ ومسوح الرهبان وغفّارة القساوسة والأحبار، واعتلوا منابر الوصاية على الفهم والتنفيذ، واختصوا أنفسهم بالبيان والتبيين للنفس الأمّارة بالسوء عند غيرهم. واستقر في ذهنهم أن خيركم من تعلم القرآن وعلمه، وليس من تعلم القرآن وعمل به فهدى بذلك غيره، فينأى بنفسه عن الأولوية في تسعير نار جهنم. في حين نجد أئمة الفقه وأساتذته يرون أن جهل المسلمين بحقائق دينهم وعدم معرفتهم الحِكم المنطوية تحت أحكامه حاجة يتم تثمين تلبيتها، وربما بشكل يستثيرها وليس إشباعها لضمان استمرارها، أو يكون ذلك بشكل يستديم معه التعليم، وإن أفضى إلى اعتبار تلك الأحكام تعبّدية تُحفظ ألفاظها، ولا يتحرك الفكر في التماس عللها وتطلّب حِكَمِها وتعرف مقاصد الإسلام منها وتصفح وجوه المصلحة والمفسدة فيها. فهل يُغني ‘حفظ’ القرآن عن تدبّره؟ ولماذا أوجب الله الإنصات إلى القرآن وعدم الاقتصار على الاستماع [ﭽ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﭼ الأعراف: (204:7] ؟. ووتر آخر تمثّل في مساري الأكاديمي (البحثي) فكم تساءلت: هل الفروق في المراتب الأكاديمية ترجع إلى عدد الأوراق المنشورة أو المكتوبة؛ حتى وإن كانت صدى "لأغنيات قديمة" وأصوات سابقة. وقد حملت أرفف المكتبات "أطنانا" منها، ومع ذلك فالمسار يتجه القهقرى بصورة فاضحة للأوان؛ فما كان للماضي مناسبا أصبح اليوم مسخا مقززا، ونسمع من أبنائنا الدارسين "ياليتهم سكتوا وأبقونا على ما نحن عليه"، وعذابنا ليس فيما نسمع وإنما فيما نعاني منه ونراه فيزيدنا ألما لصدقه. إنه وتر الإحساس بالمسئولية ويقينية المساءلة. ووتر ثالث قد يكون لي فيه نصيب أوفى من زملائي: أليس من حقي أن أنزعج من أن أكون مشاركا في ‘تكلّس’ الدراسات العليا من نشر "الأمية البحثية" وتأكيد للعجز المكتسب في تدريس مقرر ‘مناهج البحث’ في قالب يئن من الجمود في تناوله وتقويمه، وكأننا نؤز أبناءنا أزّا لكي يستسهلوا الحصول على الدرجة ثم لهم أن ينفذوا ما يشاءون. إن من يدخل دروب البحث والكتابة عليه أن يتناول القضايا والأفكار من زاوية مختلفة عن الآخرين، وليس بالضرورة أن تكون مناقضة لما طرحوه؛ ليكون ذلك فاتحة تقادح أفكار ومحضن تكاثر لاستيلاد الجديد منها وإعادة توظيفها في عملية إبداعية لاتتوقف، حتى لا يتحول الباحثون إلى ترديد ما سبق فتتهاوى فاعليته مع اختلاف السياقات. أما إذا كان ذلك القديم قائما على سوء فهم أو ضيق رؤية أغفلت جوانب وسترت أخرى أو لجأت إلى اجتزاء نقاط بدعوى استقلاليتها, فإن الطرح التقليدي يكون قد أسهم في تأكيد الخطأ وارتفاع مستوى الزيغ الحاجب لوحدة المعرفة وتكاملها. ولا يغيب عنا الإشارة إلى "عقبة" أكاديمية تتمثل في مدى معرفة الكاتب بالعلوم الدينية ومصدر تلك المعرفة؛ وهي في غالبها ذاتية التكوين. ومن ثم يجب التأكيد على أن العدسة التي ينظر منها الكاتب ‘عدسة نفس إجتماعية’، وأن الكتاب الحالي برز من اهتمامات أكاديمية، ويهدف إلى إلقاء الضوء على مسارات بحثية قائمة؛ بغرض الإضافة التعرّفية لا المعرفية. إن مسيرة البحث العلمي في البلاد العربية؛ في مجالات العلوم الإنسانية على وجه الخصوص؛ شهدت تسارعا بين الباحثين لتعرّف آخر ما تناولته بحوث الغربيين ليتناولوها في دراساتهم؛ إما تكرارا على عينات محلية أو تعريبا لمقاييس مؤسسة على مفاهيم ونظريات تبنّوها ولم يتبينوها؛ لتخرج بنفس النتائج، دون تمحيص الأسس الفكرية التي تكوّن دعائمها؛ مما أسفر عن تمايز الرؤى وافتراق الدلالات. وما يُثير الحيرة ألّا نرى آثار ذلك وتبعاته في استراتيجيات البناء والتنفيذ، فما زالت منظومة التربية والتغيير الاجتماعي متمسكة بما قامت عليه من أطر فلسفية وركائز تدبّرية تتقادح بين "الذرائعية" instrumentalism و"الواقعية" realism، و"البنائية" structuralism و"الوظيفية" functionalism؛ في إجابة لأسئلة بحثية تتناول مسارات التبرير أو العلّية. وظهر الفارق واضحا بين أهداف ومعايير ومفردات تلك المنظومة وبين ما نراه واقعا نعيشه قبل أن تعطينا دراسة ‘الدين’ (أو التوجه الديني) ما نبحث عنه، وجعل الخالق له موعدا ولكنّا لا نستطيع عليه صبرا.