وصف الكتاب:
تشكل هذه الورقة محاولة متواضعة لتقديم كتاب الاستدلال والبناء. بحث في خصائص العقلية العلمية للدكتور بناصر البعزاتي الذي صدر في نهاية السنة الماضية عن دار الأمان بالرباط والمركز الثقافي العربي بالدار البيضاء. ويجد هذا الكتاب أصله في أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في الفلسفة (تخصص: المنطق والإبستمولوجيا وتاريخ العلوم) أنجزها المؤلف تحت إشراف الأستاذ سالم يفوت وناقشها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط في شهر نونبر 1997. يقع هذا الكتاب في 509 صفحة. فبالإضافة إلى مقدمة وخاتمة مركزتين جدا وقائمة للمصطلحات ولائحة للمراجع غنية للغاية، قسم المؤلف كتابه هذا إلى ثلاثة أقسام: ـ القسم الأول: بداهة المقام، ـ القسم الثاني: النظرية والتجربة، ـ القسم الثالث: بنائية الاستدلال العلمي. كما قسم كلا من القسم الأول والثاني إلى أربعة فصول، وقسم القسم الثالث إلى خمسة فصول. وكما يتضح من خلال العنوان، يتناول هذا الكتاب موضوع طبيعة البناء العلمي أو "خصائص العقلية العلمية". ومما لا شك فيه، أن هذا الموضوع إذ يكتسي أهمية بالغة جعلته يحتل مكان الصدارة في الأبحاث الإبستمولوجية والمنطقية المعاصرة، فهو موضوع شائك ومتشعب للغاية. ولعل هذا ما جعل الأمور المعروضة في هذا الكتاب تبدو، بإقرار المؤلف نفسه، "مبعثرة ومتشتتة وغير منسجمة" (ص17). غير أن المتتبع المنتبه لمختلف تمفصلات الكتاب يدرك بسهولة وجود خيط قوي ناظم لها. يصرح المؤلف في مقدمة الكتاب أنه تناول الموضوع تناولا نقديا قريبا من تناول كل من بياجي ولورنتسن، إضافة إلى استفادته من أعمال كل من تولمن وباشلار وهانس وكون. وكما يتضح منذ المقدمة، تروم هذه المقاربة البنائية النقدية إلى بناء تصور للعقلية العلمية من خلال نقد صارم للتصورات التقليدية وخصوصا التصورات الوضعانية في صيغها الأصلية والمنقحة (بوبر مثلا) لكونها، إذ حاولت تحديد خصائص العلم من خلال مفاهيم الاستقراء والاستنباط والتحقق وإذ ركزت على منطقية العلم، أهملت عناصر أخرى تتدخل بالضرورة في بناء المعرفة العلمية كـالخلفيات الثقافية والتداول والاقتباس. ومن جهة أخرى، يرفض المؤلف التصورات اللاوضعانية للعقلية العلمية التي قامت، منذ الستينات، على أنقاض التصورات الوضعانية. فإذا كانت هذه الأخيرة قد ركزت على نقاء وصرامة ومنطقية العلم، فإن الأولى أصبحت تركز على "حضور الخيال والحدس والعناصر الشخصية في العلم"، بل أن بعض التصورات اللاوضعانية المتطرفة (فيرابند مثلا) ذهبت إلى حد نعت العلم باللاعقلية وإغراقه في "مزالق مقامية"، وجعله صادرا عن أهواء ذاتية. ومن ثمة، يستخلص المؤلف أن التصورات اللاوضعانية، نسبانية فوضوية كانت أم نسبانية جذرية إذ قامت كرد فعل على تطرف التصورات الوضعانية، سقطت في تطرف آخر، في "إقرارات جزافية" وأحكام مجانية ومرتجلة حول العقلية العلمية. وتأسيسا على ذلك، ينتدب المؤلف نفسه لتأسيس تصور جديد للعقلية العلمية أفضل وأقوى من التصورات السابقة، يستند على "فتوحات تاريخ العلم والعلم المعرفي ونظرية الاستدلال". وبذلك، فإن الكتاب يطمح إلى أن يكون مساهمة متميزة وأصيلة في البحث الإبستملوجي المعاصر المنشغل أساسا بمشكل طبيعة النظرية العلمية والآليات المتحكمة في بنائها. ولتقديم المعالم الأساسية لهذا التصور البديل، بالدقة التي يسمح بها التقديم، نقترح التوقف عند بعض المسائل المتناولة في هذا العمل، علما أن غنى الكتاب وتنوع قضاياه لا يسمحان لعمل تقدمي كهذا بمتابعته خطوة خطوة. 1 – القسم الأول: بداهة المقام: يشتمل هذا القسم على أربعة فصول: 1) معيار المنطق الصوري، 2) المنهج والممارسة، 3) تمييز العلم، 4) من المحلية إلى الكونية. ويتناول فيه المؤلف جملة من التصورات التي هيمنت على التحليل الإبستمولوجي والمنطقي للمعرفة العلمية خلال النصف الأول من هذا القرن. ويهدف هذا التناول بالأساس إلى إبراز حدود التناول المنطقي الخالص وقصور الصياغة الصورية للاستدلال العلمي. إن التناول المنطقي الذي ينظر إلى العلم "كإنجاز عملي لقواعد المنطق الصوري" لم يستوعب جيدا طبيعة النشاط العلمي، ذلك أن الصياغة الصورية لا تستجيب لا للدينامية الدائمة للممارسة العلمية ولا للبلورة المسترسلة للمعرفة العلمية. فلو اعتبر المنطقي دينامية الفاعلية العلمية وتفاعل الآليات العقلية مع عناصر أخرى في بلورة المعرفة العلمية لوجد نفسه في موقف حرج للغاية يفرض عليه تغيير لغته الصورية على الدوام. ومن هذا المنطلق، ينتقد المؤلف التصور الاستنباطاني للعلم، كما تبلور لدى بعض مناطقة العلم المعاصرين من أمثال بوبر وهمبل وناجل. يؤكد هذا التصور على أن "بناء النظرية العلمية خاضع لبنية استنباطانية" (ص23) وأن الاستنباطية خاصية أساسية بل وضرورية للنظرية العلمية. ومن ثمة، يتأدى هذا التصور إلى إقامة علاقة تواز بل وتلازم بين المنطقي والعلمي بحيث أن "ما استجاب لقواعد المنطق فهو علمي وما لم يستجب لها فليس علما". وبناء عليه، بلور الاستنباطانيون نموذجا استنباطيا للتفسير يعتبر أن القوانين العلمية تتسم أساسا باندماجها في النظرية العلمية بالرغم من كونها نتيجة تعميمات استقرائية. فالقوانين العلمية تفسر بالنظرية من حيث أنها مستنبطة منها. إن المؤلف إذ يعترف بأهمية الاستنباط في النظرية العلمية وقابلية جل النظريات العلمية لأن تعرض في شكل بناء استنباطي، فإنه يؤكد على حدود التصور الاستنباطاني للعلم والنموذج الاستنباطي للتفسير. فبالإضافة إلى كون البناء الاستنباطي للنظرية هو "من قبيل التنسيق البعدي" وإلى استحالة رد النظرية العلمية إلى مجرد بناء صوري خال من أي مضمون دلالي، فإن التصور الاستنباطاني لا يراعي دينامية العمل العلمي ولا الملابسات المقامية التي تبلور فيها. بالجملة، إن هذا التصور إذ يحرص على تقديم النظرية العلمية كبناء صوري دقيق جامد ونهائي، لا يقدم فهما سليما لطبيعة النشاط العلمي.