التميمة : نيكتوفيليا اليهود

• سنة النشر: 01 Jan 1970.
• عدد مرات التحميل: 502882 مرّة / مرات.
• تم نشره في: الإثنين , 14 ديسمبر 2015م.

وصف الكتاب:

القصة الاولى من الكتاب الـمترجم: التميمة نيكتوفيليا اليهود؛ ترجمة الأعمال الكاملة لمردخاي زئيف فايربرج. ليل الربيع مرفقة بالهوامش. قراءة ممتعة ليلُ الرَّبيع الآن طَعِنتُ في السِّنِّ وَارتكنتُ, انحنى ظهري, وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً, وخارَتْ هِمَّةُ شبابي. لن يطولَ بقائي لمُدَّةِ سبعةِ أيَّـام, وإن فعلَ, فستكون أيَّـامي بالغيظِ والغضبِ. وليسَتْ أعباء سنواتي هي التي أقضَّتْ ظهري, وإنَّما هي أحزاني ومصاعب حياتي. الآن أنا لا أستطيع أنْ أبكي, ولا أنهض كذلك على الضَّـحكِ, يَبُسَتْ ينابيعُ دموعي, وتحجَّرتْ مشاعري... وها هي جميع لعنات "التَّوبيخ" تربض عليَّ, وأنا لا أتأوَّه. لكنَّـها ليلة واحدة تلك التي علقَتْ في ذاكرتي, وصبيٌ ما كان على قيدِ الحياة, وكيف كنتُ أشعر. كان الأمرُ في إحدى اللَّيالي الأولى مِنَ الرَّبيع. في غرفتي الصَّـغيرة ذات نبراسٍ يبعثُ ضوءً باهتـاً. وعلى المنضدةِ, تتبعثرُ أمامي كتبٌ, وتمتزجُ دون ترتيب: أغلفة كتب تحمل أسماءَ عديدةٍ مثل كتاب باب قاما[1], وكتاب الخَوْزَري[2], ويورا دعاه[3], والجزء الأوَّل, وكتاب دليل الحائرين[4], وكتاب بدايات الحكمة, وكتاب العهد القديم, ومدفونٌ أسفل وسادة سريري كتب الهاسكالا[5]. رياحُ حزنٍ عميقةٍ, لمسَتْ قلبي برمَّتِهِ. أكبَّ عليَّ الضَّوءُ الباهتُ رياحـاً باهتةً, أمَّا الكتبُ الكثيرةُ والمختلفةُ والمشهورةُ التي تستلقي أمامي, على منضدتي, فقد سكبَتْ على همِّي رياحـاً مِنَ المسِّ والجنونِ. حينها سِرْتُ تجاه نافذة غرفتي – وفتحتُها. الجوُّ ساكن في الخارجِ. حارةُ اليهود القديمة, وألواحُ الأخشاب التي تُوارِي النَّوافذَ الصَّغيرة المُغلقة. هُناك خيطُ ضوءٍ رفيعٍ يلمعُ مِنْ خلال إحدى الشُّقوق في الألواح, فأدركتُ على الفورِ أنَّـه حِرَفِيٌ فقيرٌ, لا يزال يقوم على عملـه, أو رُبَّما قد امتدَّتْ يداه إلى كتابٍ وجلسَ ليدرسـه. إنَّ كُلَّ البيوتِ التي لا تُسمع فيها كلمات التَّوراة[6]في أطرافِ اللَّيل, هي حتماً خرْبَة, وما ألطفها التَّوراة لليهود في المساء؟! البدرُ شديد الجمال, في وجهِـهِ الكامل التَّام, المُبحر في البحرِ اللَّازورديِّ, والذي يضوي وتعمُّ الحارةُ بنورِهِ الأبيض اللَّطيف. ها هي تنبعث منـه موجاتٌ مِنَ الضَّوء على نافذتي وعليَّ أنا ذاتي, أنا النَّاظرُ إليـه. آلافٌ وآلافٌ مِنَ النُّجومِ تلمعُ وتبرقُ في كنفِـهِ بارع الجمال – إنَّـها السَّماءُ. موجاتٌ مِنَ الضَّوءِ اللَّطيف تُبحرُ من حولـه, والرِّياح تلوح في الأفق محمولةً على أجنحتـه, ومِنْ بعيد تهفهفُ رائِحةُ العطرِ وتنتشرُ في الحارة. الطَّبيعة تنعم بالعذوبةِ, والحياةِ, والهدوءِ. الكون برمَّته يُعزف على لحنٍ شديد الرَّوعة. الجوُّ مشحونٌ بالأصواتِ العذبة: الشُّكرُ للهِ لأنَّـه أحسنَ خَلْق العالَم. قُـدْسُ الأقداس! وهُنا داخل المعبد لا توجد أسفار ولا مجلَّات, لا يوجد تفكير ولا فلسفة, ولا توجد عقول غامضة ولا أفكار ماديَّة – لقد صَنعَ هُنا الرَّبُّ كُلَّ شيءٍ مضبوطاً ومُقدَّساً! ها أنا أستنشق- بكُلِّ زخمي- أنفاسي مِنَ الجوِّ اللَّطيف, فما أعظمها مُتعة, إنَّ الصَّدرَ مُتسِعًا, والقلبَ ينبضُ نبضاتَـهُ... ها أنا أرفعُ عينيَّ نحو النُّجوم الجميلة, نحو القمر ونحو أعماق البحر اللَّازورديِّ... يا إلهي, يا إلهي! ما أروع عالمك! وما أعظم السَّلام, وما أعظم الحُسن والرَّوعة اللَّذان سكبتهما عليـه بفضلِكَ! ما أروع وما أجمل الحياة في عالمك المُدهش الذي خلقتـه! ما أجمل هذا المساء وما ألطف أنْ أحيا لأستمتع بمساءٍ كهذا تحت اسم الرَّبِّ! وهُنا في منتصف الحارة؟! وعالمُك, أيُّها الرَّبُّ, نقيًّا ومُقدَّساً! واحسرتاه, ما أجمل البدر المُبحر ببطءٍ هُناك في السَّموات العُلى, ما أجمل ذاك الوجه الذي يبعثُ سلاماً وحُبًّـا... ها أنا ذا أسمع صدى الأصوات العجيبة التي تنتشر هُناك في الخفاء بالظلال... ها أنا ذا أرى السِّحرَ العجيب الذي يُفْعِمُ الفضاءَ الواسع... يوجد عالمٌ كبيرٌ وواسعٌ! توجد مُتعةٌ ونعومةٌ ولطفٌ مُقدَّسٌ! وهُنا في منتصف الحارة؟! وأنا هُنا ما زلتُ لم آخذ كفاية مُتعتي مِنَ هذه النِّعم: "اكْتَسَتِ الْمُرُوجُ غَنَمًا، وَالأَوْدِيَةُ تَتَعَطَّفُ بُرًّا. تَهْتِفُ وَأَيْضًا تُغَنِّي"[7], التَّـلمود[8], وكتب الأخلاق, وكتاب الشُّولحان عاروخ[9], وكتاب بوسقيم بيولي[10]. منطقُ الحياةِ. لقد رأيتُ منطقَ الحياةِ جلـيًّـا كما وَكأنَّني أنظرُ إلى هذه الحارة وإلى هذا السُّوق. أمَّـا المزامير[11], وكتب الهاسكالا, وكتب المعرفة, فقد بدو جميعاً لي كأنَّهم أشعاراً مِنْ طـيَّات الحياة. وقد تجلَّتْ لي المعرفة بأنَّه هُناك وِدْيَاناً تلتفُّ بين الصُّخور, وينابيعاً في جداول الماء تسيرُ بين الجبال, وروعة جميع الحيوات التي خلقها القهَّارُ, وأنَّ كُلَّ هذا يضع حـدًّا للوحشيَّة والظَّمأ. لكن تلك الينابيع, والـنَّقاء, والجداول, والـتَّـيَّارات والجبال لم أشاهدها أبداً... يدورُ الصَّمْتُ. يا لهُ مِنْ صوتٍ هذا الذي يصدحُ بقوَّةٍ في أذنيَّ, قلبي يُعاني أسفل الضَّغوطات الشَّديدة, المكانُ ضيِّقٌ عليَّ للغاية... لماذا ينتابني شعورٌ بالرَّغبةِ في البُكاءِ؟ ما المغزى مِنَ الدُّمُوع من الأساس... ضاقَ حالي للغاية! أين شبابي؟ ما حياتي؟ ما عالمي؟ يا إلهي! وهل سبق وعرفتُ مِنْ قبل ما شبابي وما حياتي؟ هل سبق وشعرتُ مِنْ قبل في فترة ربيع عالمي بما تشعر به الشَّجرةُ في فترةِ الرَّبيعِ التي تسبق الصَّيفَ, كُلُّ شُجَيرةٍ, كُلُّ زهرةٍ, كُلُّ نبتةٍ, كُلُّ ذبابةٍ, كُلُّ حشرةٍ, كُّلُ جناحٍ؟ وفترةُ الشَّباب, ما أجملـها وما أروعها فترة الشَّـباب تلك! آلافٌ وآلافٌ مِنَ البشرِ مِمَّنْ يُتفتَّح عالمهم حقًّـا في فترة الرَّبيع, كما تتفتَّح الطَّـبيعة الآن, وأنا هُنا في منتصف الحارة؟! وخارجاً بالحارة تتفتَّح الطَّـبيعة, ويتفتَّح العالم, وتُزْهرُ الأشجار وتُصبح أكثر رطوبةً. وهُنا؟! والحياةُ, في عالمِك, أيُّها الرَّبُّ, جميلةٌ ولطيفةٌ ومفعَمةٌ بالسَّعادةِ, سَكِينَة وَبراءة! كم مِنَ الآلاف والآلاف مِنَ البشر الذين ينعمون الآن بفضلِك وثنائِك الذين منحتُهُم إياهما! كم مِنَ الآلاف والآلاف مِنَ القلوب التي تُفعَم الآن بالسَّلام والطَّمأنينة, إيماناً وأمناً, صلاةً وابتهالاً! كم مِنْ الآلاف والآلاف مِنْ زخمِ الشَّباب الذين يشعرون الآن بالهمَّة والعشق والاشتياق, وزهو الحياة ومتعتها! حياة! حياة! حياة! حياة, الرَّبُّ! وهُنا في منتصف الحارة؟! وهُنا في منتصف الحارة, هُنا في منتصف موجات العتمة, لا تُشرقَ الشَّمسُ, ولا يطلَّ القمرُ, ولا تختلسَ النُّجومُ النَّظرَ. لا تتفتَّح الطَّبيعة ولا تحيا الحيوات... هُنا في منتصف موجات العتمة, تُضارُ حرباً ضروساً ضاريةً... هُنا تُصارع الحياة ضدَّ الحياة في سبيلِ الحياة... هُنا نقلقُ حيال كيفيَّة سرعة قضاء الأمر الفظيع, الذي يدعونـه الحياة... العينانُ والقلبُ, هُما سجيَّتي الحياةِ وفضلُ زينتِها, لكنهما هُنا ليس لهما أيِّ جدوى على الإطلاق وهما "قوَّادا المعرفة"... أمرٌ بائسٌ! عيناك منزوعتا الرُّؤية, وقلبك منزوع اللُّطف! لكن ما الذي تراه وما الذي تهواه في منتصف الحارة؟! ها أنا ذا أشاهدُ الظَّهرَ المُنْحَنِي, وأشاهدُ الوجهَ الشَّاحِب, الوجهَ الذي يرى ويعشق هذا العالَمُ الكبير, الذي في خارجِ أسوار ملجأكم... شعورُ الدُّودةِ في غورِ الأرضِ بأنّـَهُ- مِنْ فوقها- يوجد لها فِتْرٌ[12], وتوجد لها حياةٌ رائِعةٌ وعالمٌ زَاخِرٌ بالضَّوءِ؟ ها هي هُناك بعيداً, تمتدُّ سلاسلٌ مِنْ أشجارِ البلُّوط الخضراء, كم هي حسنة المظهر أشجار البلُّوط تلك! كم هي جميلة أوراقها الخضراء تلك! وكم أعشقُ إطالةً الـنَّظرِ إليها هكذا مِنْ بعيد... ما زلتُ أذكرُ منظرَها المُحبَّب في أيَّـام الصَّيف الحارة... قلبي في ضيـقٍ شديد, ومشاعري مُتخبِّطة للغاية... كم أتمنَّى أنْ أذهب إلى الخارج... أتمنَّى أنْ أذهب وأتـحاور مع القمر, وحدنا, سويًّـا, على انفرادٍ, بين سلاسل أشجار البلُّوط... ذهبتُ إلى الخارج... الهدوءُ يعمُّ الحارةَ, السُّكونُ ينتشرُ في جميعِ أركانِها. الضِّيقُ في قلبي يكبُر ويزدادُ شيئاً فشيئاً... الحياةُ, والطَّبيعةُ, والدَّمْدَمَةُ مِنْ حولي, وإلى خارج الحارة... حينها أيضاً سَمِعتُ صوتَ كلبٍ ينبحُ خارج الحارة. وأنا في منتصف الحارة.