وصف الكتاب:
بلغتُ السابعة عشـرة، وأنا في عامي الأول في كُلية العلوم ... كان قلبي يدق وأنا أتجول في طُرقات الكُلية، وتتخلل أنفي رائحة المواد الكيميائية المُختلفة فأُغمض عينيَّ في مُتعة من يتنسم عطر الياسمين ... ما أجملها أيام الصبا!!! حين كان الخيال يُضفي على الأشياء كمالًا وعلى المعاني جمالًا وسحرًا ... يالها تلك الأيام التي عشت فيها حياةً غير الحياة، وسكنت عالمًا غير العالم ... كُنت أرى كلَّ الأشياء بعينيّ زهرة ربيعية تفتحت لتُعانق ما حولها من جمال ... لم أكُن أرى أي شيء على حقيقته ... كُنت أرى في زُملائي روادًا للعِلم والفِكر، وأرى أساتذتي جميعًا عُلماء أجلاء يمثلون السمو والرقي والرفعة ... وكنت أستشعر قدسية قاعة المحاضرات وأتشمم العطر في المعامل ... كنتُ فتاة خجولًا ... إذا حادثني أحد الزملاء يتشرب وجهي بحُمرة الشفق ... وكنت أسمع من صديقاتي إطراءً كثيرًا ... فهُن كُنَّ تعتبرنني فتاة جميلة ... اشترى لي أبي مجموعة من "الفساتين" الأنيقة الفاخرة إنجليزية الطراز والصُنع ... كُنت أسير بها وأنا أشعُر بالحياء ولاسيما حين تكاثفت كلمات الإطراء والإعجاب من صديقاتي وهُن يصفنني بالأميرة ويدّعين أنني أبدو مُلفتة للنظر كثيرًا ... وقد أثارت ملاحظاتهن لديّ المزيد من مشاعر الخجل ... ولكنه كان خجلًا مشوبًا بالرضا ... ففي فترة الصبا ... تلك الفترة التي تتشح بوشاح المراهقة ... مرحلة الخروج إلى العالم للمرة الأولى باستقلال يحتاج كل من الفتى والفتاة أن يتعرف على هويته ومكانه من العالم الخارجي بعد أن قولبه والداه في قالب خاص بهما. وخلال رحلة البحث عن الهوية وهي رحلة شائكة خطرة ... نجد أكثر الفتية والفتيات يشعرون خلالها بالحيرة تجاه كُل شيء ... فلا هُم يملكون الخبرة ولا النُضج ولا الوسائل، وهم في الوقت نفسه يتوقون للاستقلال ولأن يتحركوا في الحياة وفقًا لإرادتهم هُم ... وهُم بَعْدُ لم يملكوا الرؤية التي تُعينهم على معرفة الطريق. لا ريب أنني في تلك المرحلة كنت أطرب للإطراء وككل الصبية والفتيات يسعدني أن أستشعر القبول ممن حولي ... كنتُ بحاجة إلى أن أطمئن أنني إنسانة جيدة، ولم تكُن هُناك وسيلة لذلك سوى أن ينعكس ذلك استحسانًا من الآخرين. كُنت أُنصت للمحاضرات وأُسجل تساؤلاتي غير العادية وأتوجه بها لأسأل أساتذتي بشكل مُتكرر ... كُنت أسعد كثيرًا بالتقدير الذي يبدونه تجاه تساؤلاتي وملاحظاتي غير العادية ... وكان يُرضيني أن أحظى باهتمام خاص من أساتذتي ... كلها أشياء كُنت أستمد منها هويتي كفتاة لم تزل في مرحلة المراهقة ... وسُبحـان الله !!! أكادُ لا أُصدق أن تلك الفتاة التي كانت تحتاج لأن تستمد هويتها وثباتها ممن حولها هي نفسها كاتبة هذه الكلمات التي تؤمن بأن اكتمال نُضج الإنسان ينبثق من استقلاله النفسي، ومن كونه يستمد كينونته من قيمة إنجازه وغرسه ورؤيته وصدق نواياه وليس من تصفيق الآخرين ... ولكنها فترة الصبا بكل ما فيها من اهتزازات النبتة الصغيرة أمام الرياح.