وصف الكتاب:
يعتبر موضوع العلاقات الدلالية في اللغة العربية من المواضيع التي نالت حظّاً وافراً من الإهتمام في دراسات القدماء والمحدثين ولا تزال. وقد نشأت معظم هذه الدراسات في كنف القرآن الكريم بغاية فهم مفرداته، وإدراك العلاقات القائمة فيما بينها؛ لأن المرتكز الأساس لتفسير القرآن الكريم وتأويله هو فهم معاني ألفاظه، فعليها يتوقف فهم الأحكام والتشريعات ومفردات العقيدة، ومفاهيم القرآن الكريم المتعددة، بالإضافة إلى أن فهم معاني الألفاظ يقود إلى فهم معاني جمل النص وتراكيبه، ومن ثم فهمه في كليته. وبعد الإهتمام بالعلوم اللفظية المنطلق الأول لفهم القرآن الكرم وتفسيره، كما أشار إلى ذلك الراغب الأصفهاني في كتابه (ألفاظ القرآن) في قوله: "وذكرت أن أول ما يحتاج أن يشتغل به من علوم القرآن العلوم اللفظية"، ودراسة المفردات القرآنية وتحقيقها جزء أصيل من هذه العلوم اللفظية، فتحصيل معاني مفردات ألفاظ القرآن الكريم... من أوائل المُعاوِن لمن يريد أن يدرك معانيه... وليس ذلك نافعاً في علم القرآن الكريم فقط؛ بل هو نافع في كل علم من علوم الشرع". وقد تأكدت الحاجة إلى المباحث المهتمة بالمفردة القرآنية في ظل تفشّي اللحن، وفساد اللسان بسبب كثرة الداخلين في الإسلام وإحتكاك العرب بهم، وبسبب الفتنة المذهبية وتعدد وإختلاف الفرق السياسية والفكرية التي شهدتها الأمة الإسلامية. من هنا، تعتبر ظاهرتا الإشتراك المعنوي (وقد اقترح الباحث الإشتراك المعنوي بديلاً لما يسمى بالترادف مبنياً أسباب ذلك في ثنايا بحثه هذا) والإشتراك اللفظي في القرآن الكريم من أبرز العلاقات الدلالية التي تركَّز عليها الإهتمام لدى الدارسين، وذلك لكون عناصرهما تطرح إشكالات أكبر من الألفاظ المتباينة على مستوى فهم القرآن الكريم، وذلك أن عدم الإلمام بالفروق الدلالية القائمة بين المفردات المشتركة في المعنى يؤدي إلى إستعمالها بالمعنى نفسه، والتعامل مع عناصر المشترك اللفظي على أساس إمتلاكها لمعنى واحد دون الإنتباه إلى معانيها المتعددة التي تستعمل بها، يسقط الناس في الفهم الخاطئ والتأويل المتعسف للنصوص القرآنية وما يترتب على ذلك من عواقب. من هنا، تأتي أهمية هذه الدراسة التي انشغلت بالبحث عن ما يجمع ويفرق عناصر الثنائيات والحقول المعجمية المستمدة من ظاهرتي الإشتراكين المعنوي واللفظي، وذلك إنطلاقاً من إفتراض يقوم على أن هذه العناصر المعجمية تتفق ف معنى نووي هو الذي يدفع الناس إلى الإعتقاد بتطابق معانيها، وتختلف في معانٍ أخرى هي التي تمنع أن تعوض إحداها الأخرى في السياقات القرآنية. وعلى سبيل المثال، وفيما يتعلق بالفروق اللغوية ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يوجه معلماً ومبيّناً لأصحابه ولمن بعدهم، مكانة الكلمة وقيمتها في حسن التعبير: "لا يقولنّ أحدَكم خَبُثَتَ نفسي، ولكن ليقل: لَقِسَتْ نفسي" أي خبثت، واللقس: الغثيان، وإنما كره النبي صلى الله عليه وسلم هرباً من أن يوصف المؤمن بالخبث، وفما روي في الموضوع أيضاً أن إعرابيّاً جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال علمني عملاً يدخل الجنة، فقال: "... أعتق النَسَمَة وفك الرقبة"، فقال: يا رسول أليستا واحداً؟... قال لا، عتق النَّسَمَةِ أن تَغَرُّو بعنقها، وفك الرقبةِ أن تعين في ثمنها "فالذي يظهر في كلام الإعرابي أنه خفي عليه المعنى والتبس؛ لتشابه ألفاظ الكلام في الدلالة على المعنى. وإذا كان هذا في كلام الناس، فهو في كلام الله تعالى المتناهي في البلاغة أكثر وضوحاً وأشدّ طهوراً، فقد وردت في القرآن الكريم دعوة صريحة إلى إختيار الألفاظ المناسبة لتأدية المعاني المرادة، عبر ما بينها من فروق في الدلالة، والنظر إلى أيها أليق بالمقام وأنسب له، حتى لا تضيع المعاني بين الإحتمالات، ولا تضلّ المقاصد بين التمويهات. وجاءت هذه الدعوة في قوله تعالى: ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ....﴾... [سورة الحجرات: آية 14]... فالآية تفرق بين كلمتي الإيمان والإسلام، اللتين استعملتا بمعنى واحد، على الرغم من الفروق الدلالية الموجودة بينهما. فــ "الإيمان" هو التصديق مع الثقة وطمأنينة النفس، والإسلام الدخول في السلم، بإظهار الشهادتين، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾... فاعلم أن ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة القلب فهو إسلام، وما واطأ القلب فهو إيمان... هذا من جهة، وأما فيما يتعلق بمنهج الدراسة فقد أقامه الباحث على منهج وصفي تحليلي، يقوم على إختيار متن من العناصر المعجمية التي أخضعها للوصف والتحليل والتفسير المفضي إلى إستخلاص النتائج، معتمداً في طريقة الإشتغال على الإنطلاق من المدخل المعجمي بإعتباره الأصل في فهم حقيقة الألفاظ، لينتقل من ثم إلى تتبع اللفظة عبر إستعمالاتها القرآنية مستفيداً من سياقات ورودها النصية والمقامية كل ذلك لضبط دواعي إستعمالها في هذه السياقات، وتحديد المعاني الإضافية التي يمكن أن تغني بها المعاني المعجمية. وقد قصر المدخل الإقتضائي، بوصفه مدخلاً قائماً بذاته، على دراسة الإشتراك المعنوي لكونه يناسبه أكثر من الإشتراك اللفظي، ذلك أن المعاني الإقتضائية ترتبط إرتباطاً وثيقاً بالمعاني المعجمية، ومن ثم تكون عنصراً مساعداً على التفريق بين عناصر المقول والثنائيات المعجمية من خلال إقتضاءاتها التي تختلف بإختلاف الألفاظ: وهو ما يستنتج منه فعالية الإقتضاء في ضبط الفروق اللغوية بين الألفاظ. أما المشترك اللفظي فينطلق من لفظ واحد ذي معنى أصل وله إستعمالات متعددة، ومن ثم يكون البحث في الأساس عما يجمع هذه المعاني، الأمر الذي يتعذر معه توظيف المدخل الإقتضاني. وبالمقابل وظّف الباحث دراسة المشترك اللفظي ظاهرة التغير الدلالي التي تفسر إنتقال اللفظ من معنى إلى آخر، وتسهل الوصول إلى المعاني المشتركة بين هذه الألفاظ، مدمجاً هذه الظاهرة في إطار المدخل الإستعمالي للتقاطعات الموجودة بينهما، مع حرصه عند إشتغاله على المعاني الإستعمالية، على تدعيم قراءاته للآيات القرآنية بآراء المفسرين والتي تسند وجهة نظره، وذلك لما يملكه المفسرون من سلطة معرفية تقوي ظهر الباحث، وتشجعه على الإشتغال على النص القرآني دون الخوف من السقوط في مزالق التأويل.