وصف الكتاب:
الحمد لله رب العالمين، القائل سبحانه: (كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون) وقوله تبارك وتعالى: (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة)؛ و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد خاتم النبيين، القائل صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"، والقائل عليه الصلاة والسلام:" أفضل العبادة الفقه"؛ و على آله و صحبه أجمعين، و من اتبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد، فيسعدني أن أقدم إلى إخواني الباحثين والدارسين، من رجال الشريعة والقانون والطب، وكذا طلاب العلم في الجامعات الجزائرية والعربية، الطبعة الثانية من كتابنا: "معصومية الجثة في الفقه الإسلامي"، في ضوء القوانين الطبية والبيوأخلاقية المعاصرة، مزيدة ومنقحة، وفقاً لآخر التعديلات التشريعية، وآخر المستجدات العلمية والطبية والفقهية، بعد أن نفذت بسرعة الطبعة الأولى من هذا الكتاب. وفي هذه الطبعة الجديدة، تابعت منهجي في دعم الجانب الفقهي والطبي في الفصل الأول، ببعض الإضافات المفيدة المتعلقة خاصة بمعيار تحقق الوفاة من الناحية الشرعية والقانونية، وما يتعلق بهذه المسألة شديدة الصعوبة من قضايا حديثة شائكة في الفقه الإسلامي المعاصر: كالموت الدماغي، ومتى يجوز إيقاف أجهزة الإنعاش، والقتل بدافع الشفقة أو ما يسمى عند بعض الفقه الغربي بـ"موت الرحمة"، واستخدام الأجنة في البحث أو العلاج، والعلاج بالخلايا الجذعية، وغيرها من المسائل المهمة. وكذا إثراء الفصل الثاني الخاص بالحماية الشرعية والقانونية والأخلاقية والإنسانية للجثة الآدمية، وخاصة فيما يتعلق بضوابط ومشكلات نقل الأعضاء من جثث الموتى، بالشروح الوافية التي تزيد الموضوعات اكتمالاً في ذهن القارئ الكريم، في ظل اجتهادات فقهاء الإسلام المعاصرة، والاتجاهات العلمية والطبية الحديثة؛ وهي مسائل ما تزال تثير الكثير من الصعوبات والإشكالات في الحياة التطبيقية، كما أنها تمس بشدة النواحي الأخلاقية. وهذا بأسلوب سهل ومختصر، بعيداً عن التكلف والحشو، والصرامة والتعقيد، ومنهج ينطلق من أمهات الكتب الفقهية والأصولية، مع الاهتمام بما كتبه أهل الطب والجراحة والبيولوجيا في هذا الشأن. إن الإسلام دين للحياة، ودون منازع، حث على العلاج والتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، لقوله صلى الله عليه وسلم:" إن الله خلق الداء والدواء، فتداووا، ولا تتداووا بحرام"؛ كما أنه شجع منذ زمن بعيد على الدراسة والبحث لمعرفة الداء وتحديد دوائه المناسب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:" لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء، برئ بإذن الله". غير أن عمليات اقتحام بالجثة الآدمية والمساس بها، لأغراض البحث العلمي، أو للتداوي بأجزاء الميت لضرورة علاجية، وذلك بناء على ما قوي دليله، ما زالت في الحقيقة تثير الكثير من التساؤل والجدل والنقاش والمشكلات حول مشروعيتها؛ الأمر الذي يستوجب بيان الحكم الشرعي لهذه المسائل بكل وضوح، ورسم الحدود الشرعية والنظامية والأخلاقية والإنسانية للمستجدات الطبية في وحدات العناية المركزة، ومراكز الإنعاش والطوارئ، ووحدات البحث العلمي الأساسي. وهذا فضلاً عن الاكتشافات العلمية الحديثة في مجال الخلايا الجذعية، والجينيتيك، والجينوم البشري، والعلاج الجيني، وبحوث الهندسة الوراثية والبيولوجيا، وتجارب نقل الأعضاء من جثث الموتى في أقسام الإحياء الصناعي، و مراكز ووحدات البحوث الأساسية والتجريبية على الإنسان. فإن نقل الأعضاء والأنسجة والخلايا من جثث الموتى، يجب أن تراعى في ذلك الأحكام والشروط والقيود المعتبرة في نقل أعضاء الموتى، من الإذن المعتبر، وعدم وجود البدائل، وتحقق الضرورة وغيرها؛ فما وافق الشريعة الإسلامية منها أجيز، وما خالفها لم يجز، فلا يجوز أن يكون النقل تلقائياً دون الضوابط الشرعية. فالإنسان محترم حياً وميتاً، وحرمته ميتاً كحرمته حياً؛ والواجب شرعاً عدم التعرض له، بما يؤذيه أو يشوه خلقته، ككسر عظمه وتقطيعه، أو إهانته أو التمثيل به لمصلحة الأحياء؛ وذلك لما روى أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كسر عظم الميت ككسره حيا"؛ وزاد في رواية عن أم سلمة رضي الله عنها:" ككسر عظم الحي"، يعني في الإثم. وهو ما يوضح عناية الشريعة الإسلامية بكرامة الإنسان كعنايتها بكرامته حياً، وهذا قبل المواثيق والمعاهدات الدولية والقوانين الطبية والبيوطبية والبيوأخلاقية المعاصرة. فلا يجوز العجلة في الحكم بموته، وخاصة في حالة الموت الدماغي، وهو المريض "الميت الحي" للأخذ من أعضائه والتلاعب بجثته المعصومة شرعاً، لأنه للميت حرمة كحرمة الحي، وهو الحكم الظاهر من الحديث النبوي الشريف؛ فلا يجوز التعدي عليه بكسر أو شق، لغير مصلحة راجحة أو حاجة ماسة، يقصد بها التكريم لا الإهانة، لأن الضرورات تبيح المحظورات، ولأنه إذا تعارضت مصلحتان قدم أقواهما. إن الموت لا يتحقق شرعاً إلا بعد خروج الروح من الجسد، بعد توقف قلب الشخص وتنفسه، وانتهاء مظاهر الحياة في كل أجهزة الجسم لتسري عليه أحكام الميت؛ فلا يجوز التعجيل بموته، والتسرع في أخذ الأعضاء حية في حالات ما يسمى بـ "الموت الدماغي"، إلا وفقاً للضوابط الشرعية والقانونية والأخلاقية. وإني لأتوجه بالشكر والعرفان إلى الأخوة المشرفين والقائمين على شؤون دار الثقافة للنشر والتوزيع بعمان، بالمملكة الأردنية الهاشمية، تقديراً لمجهوداتهم المعتبرة في خدمة الحركة الأدبية والثقافية والعلمية. وقد أصبحت دار الثقافة فعلاً منارة حقيقية، لنشر الثقافة القانونية الأكاديمية الصحيحة، والنهضة الحقوقية الشاملة في الوطن العربي. والله تبارك وتعالى الموفق إلى ما فيه السداد في القول، والإخلاص في العمل، وهو الهادي إلى الحق والصواب، إنه لطيف لما يشاء، سميع مجيب، وعلى كل شيء قدير.