وصف الكتاب:
كان بعض علماء المحدثين أمة في رجل، وكان بعضهم يقصد لأنواع علوم الحديث المختلفة، فمن إسناد عالٍ ومعرفة بالعلل والجرح والتعديل إلى ما سوى ذلك من أنواع علوم الحديث الكثيرة، وكثير من هؤلاء المحدثين رزق سعادة في الرواية، وذكراً سيّاراً بين الناس، وقليل منهم من وفّق في التأليف، وجمع بين حسن التدريس وحسن التصنيف، وكان الإمام الكبير أبو عبد الله محمد بن البيع الحاكم من هؤلاء القليل الذين رزقوا قبولاً بين العلماء ووفّقوا في التأليف على حدٍّ سواء، وكان ثاني سبعة من كبار علماء الحديث، أرشد ابن الصلاح إلى الاعتناء بكتبهم ونبّه للاشتغال بها في قوله: سبعة من الحفاظ في ساقتهم أحسنوا التصنيف، وعظم الانتفاع بتصانيفهم في أعصارنا: أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني ثم الحاكم أبو عبد الله النيسابوري. وللحاكم مدرسة حديثية متكاملة لم تخدم حق الخدمة، وله مصنفان في شتى أنواع علوم الحديث من مسانيد وتراجم وما إلى ذلك، ولكنه يعتبر الأستاذ الأول لعلم أصول الحديث. وأصول الحديث من المقدمات المهمة التي لا بد لطالب هذا العلم من معرفتها، وإدراك حقيقتها. وقد أولى العلماء هذا النوع من العلم الأهمية الواجبة لمثله، وألفوا فيه المصنفات ودوّنوا الكتب فيه. وللإمام أبو عبد الله في هذا الفن كتابان: الأول: "معرفة علوم الحديث"، والثاني "المدخل إلى معرفة كتاب الإكليل"، وكلا الكتابين مطبوع دون أدنى تحقيق أو إبراز لما فيها من فوائد متناثرة، ونفائس مستترة، من هنا جاء العمل في تحقيق هذين الكتابين المشتملين على أصول الحديث المجرد من مسائل الأصوليين والفقهاء. وبالنسبة لكتاب "المدخل إلى معرفة كتاب الإكليل" فهو في الأصل خطبة لكتاب الإكليل، ومترجم عنه، كما يظهر ذلك من تسمية المؤلف له. وقد أحال إلى هذا الكتاب في مواضع عدة من كتاب معرفة علوم الحديث، بل إنه أهمل في المعرفة ذكر المسائل التي بحثها في المدخل. وهذان الكتابان منبئان عن إمامة مؤلفهما، وريادته في هذا الفن يظهر جلياً فيما طرحه من أنواع هي لبّ هذا الفن والغاية منه، ثم في منهجه في التعامل معها، إذ أن المقصود من هذا العلم معرفة المقبول من المردود. وقد فصل أبو عبد الله الحاكم في هذه الرسالة أنواع المقبول وطبقات رواته وأصناف المردود وأسبابه وعلاته. وهذا الكتاب هو سابق لكتاب المعرفة من حيث الوضع والتدوين (الذي عمل المحقق فيه أولاً). إلا أنه قسم له، وهو يحتوي على شروط الصحيح، وحدّ الضيق وما بينهما، وهو اللبنة التي بنى عليها الحاكم كتابه الحافل "المستدرك على الصحيحين" الذي هو أحد الأمهات عند المحدثين.