وصف الكتاب:
رهان الحركات الإحتجاجية هو إنتاج صيغ عيش جديدة والخروج من منطق القمع والوصاية، وتأكيد قيم الحرية الفردية والفاعلية الإنسانية في مجتمعات متكلِّسة تضيق فيها فرص الإندماج الجماعي والإبداع الفردي والتداول على السلطة. وتدخل المطالب السياسية نفسها في هذا المنطق، باعتبار كونها تتجاوز التسيير الديمقراطي للحقل السياسي؛ ومن هنا نُدرك أن هذه الثورات الشبابية العصيَّة على الإستيعاب الإيديولوجي، تنضح بالمُثل الليبرالية الحالمة، وتجسِّد حالة الإنفصام العميقة بين الطبقة السياسية والأجيال الصاعدة في العالم العربي. وليست الأدوات الإحتجاجية الجديدة إلاّ التعبير الواضح عن هذه السِّمات المذكورة، لا فرق هنا بين منطق الإنتحار بالإحتراق والإحتشاد الإحتفائي في الميادين العامة، كلاهما إستخدام ناجع لسلاح الجسد في فظاعته التعبيرية المؤلمة (الإحتراق) ومتعته الإحتفالية (التكشُّف والغناء الشعاراتي... ). الجسد هنا مُحمَّل بقدرات إئتلافية ترابطية، لا تحتاج لخطابة السياسيين والدعاة والحكماء... ومِن هنا المصاعب الجمّة لصياغة مطالب الشباب الثائر في مشاريع سياسية أو رؤى إيديولوجية منسجمة. دأت فكرة هذه اليوميات خلال اللحظة الاولى التي سمعت فيها على أمواج الإذاعة نبأ فرار الرئيس التونسي المخلوع "زين العابدين بن علي"، كنت مشدوهاً بالحدث المفاجئ الذي بدا لي زلزالاً عنيفاً، تيقنت أوانها أن له ما بعده في دنيا العرب. فبحكم علاقتي القديمة بتونس التي اتخذتها وطناً ثانياً منذ سنوات الدراسة الجامعية، قدرت أن منزلة هذه البلاد في المجال الإقليمي العربي تؤهلها لأن تكون قاطرة التغيير المنشود، بقدر ما انطلقت منها المشاريع الإصلاحية العربية الأولى في القرن التاسع عشر. ولذا لم أندهش عندما سقط نظام "مبارك" تحت صرخات الجمهور الثائر في ميدان التحرير، تذكرت أوانها كيف زرت مرة مقر جمعية "كفاية" قبل سنوات قليلة، وكيف بدت لي جهودها الدنكشوتية ضرباً من المثالية الحالمة التي احتفظ بها شيوخ طاعنون في السن من فلول اليسار وبعض الوجوه الشابة المتمردة على حال لم يعد يرضي أحداً. تابعت بقية حلقات المشهد في أسبوعياتي المنتظمة بصحيفة "الإتحاد" الظبيانية، وفي الحوارات الإعلامية والبحثية التي شاركت في الكثير منها خلال الأشهر الماضية في العديد من البلدان العربية والأجنبية. وكما لا يخفى على القارئ الكريم، لم أعتمد في الكتاب طريقة التأليف التقليدية، وإنما حولته إلى نمط من اليوميات التي تجمع بين تحليل الحدث وإستنطاقه بمنهج النظر الفلسفي والرؤية التأملية الإستشرافية، إستشعاراً لحيوية حركية التغيير المتواصلة التي ليس هذا العمل سوى متابعة أولية لفصولها الأولى.