وصف الكتاب:
بعد فترة سكوت عمومي طويلة بهذا القدر أو ذاك، وذلك حسب نجاح النخب الحاكمة في بلورة وعود تاريخية أو سياسية قابلة للتصديق من طرف الجموع المتعطشة إلى تأمين شروط الحياة الكريمة، وليس الحرة بالضرورة، تفقد الشعوب براءتها الظاهرة وإيمانها بجدوى الأمن والإستقرار وتأخذ في السخط العام. ليست الثورة غير عمليقة إنخراط ميكروتاريخي في شعور معمم بالسخط الكبير الذي يتخطى عتبة الغضب، الذي يظل دوماً إنفعالاً حزيناً، ويبلغ إلى حدّ من الإستياء الإيجابي الذي لا مرد له وعندئذ يصبح النزول إلى الشوارع ليس فقط أمراً مختلفاً بل ومشروعاً أيضاً. وأن أهم سمة للثورة الجديدة هو بث السخط الكبير في الفضاءات المشتركة حيث تعمل "نحن" بلا ضمير خاص، كانت أفضل أشكال التعبير عنها هي عبارة "الشعب يريد..." التي ترددت أصداؤها في تونس إلى اليمن، ويبدو لنا أن لفظة "الشعب" هنا ليست قومية أو عرقية، بل تعبيرية أو تشكيلية: في غياب اسم أو ضمير واحد أو متفق عليه لأنفسنا الجديدة، أي الثائرة والحرة، ثم اللجوء إلى أبسط أسمائنا وأقل ضمائرنا غموضاً أو طائفية: "الشعب" هو "لا أحد" الذي نجح في إنتاج "فلانية" حرة ونشطة وفاعلة وحرة ومتحركة من دون تحفظات قومية أو دينية أو طائفية. السخط الكبير الذي يؤدي إلى الثورات ليس حدثاً مفاجئاً لأحد، بل واقعة شعورية واسعة النطاق وحيوية ومبثة، تستمد زخمها من تشكل رابطة غضبية مشتركة، ولكن غير مسبوقة بين السكان بوصفهم جموعاً حرة ومندفعة بحكم قوة الكثرة التي تحولت بسرعة إلى كتلة جاهزة للضغط العمومي الذي نجح لأول مرة في خلق توازن رعب إيجابي مع الرعب الأمني للدولة اليومية (نعني التي نقدت قدرتها على الوعود التاريخية الكبيرة). وكل دولة، حتى تملك التي ستتكون في المستقبل، هي دولة أمنية بالضرورة، وهي لا تستطيع أن تحيّد طابعها أو إنفعالها الأمني إلا إستجابة قاهرة إلى الإلتزام أو إستحقاق ديموقراطي أملاه شعب ثائر أو قادر على الثورة، ومن ثم فإن باب الثورات لن يغلق قريباً... إن الثورة هي بالأساس نهاية حادة لفترة إنتظار طويلة، وليست بداية جذرية لأي شيء... الثورة عمل شكلي مربع، وليس لها أي مضمون جاهز، هي إنتفاضة لتغيير شكل العلاقة مع الدولة، دون أي رغبة في تدميرها... إن الثورة ليست ضد الدولة بما هي كذلك، ولا هي ضد الشكل القانوني للحكم أو ضد الدولة بما هي كذلك، ولا هي ضد الشكل القانون للحكم أو ضد فكرة الشرعية أو ضد وجود نظام مدني أو ضد الدساتير، إلخ... ولذلك على الثوار أن يحترسوا من سرّاق الثورات من الداخل، أي من حاجتها إلى العنف أو من طائفتها الهلامية أو من فوضاها المؤقتة، أو ثمة من يستخدم حالة الثورة كإنفعال متوحش وسخط بلا قضية واضحة، يقوده عدميون ليس لهم أي إستعداد مدني حقيقي لتملّك قيم الإنسانية الحالية... يتابع "فتحي المسكيني" كتاباته حول الثورات العربية بما يكشف عن مواضع الخلل في عدم وصول الثوار إلى مبتغاهم في تحقيق حلمهم من دولة تعترف بحقوق مواطنيها، وتحافظ عليها وتسعى إلى تطبيقها بما يضمن لهم كرامة العيش؛ وتأتي كتابات "فتحي المسكيني" كما وأم الذين بنشيخة المسكيني في سياق نصوص ضمها هذا الكتاب... نصوص لا تدعي شيئاً أكثر من واقعة الكتابة التي لم تجد أي سبب آخر للصمت فتحولت إلى أصوات متناثرة، داخل أفق متحرك وغير مطمئن إلى شيء... من فرط إدمانه على الوعود الطويلة المدى... والتي جاءت الثورات كي تمنحنا وقتاً إضافياً أكثر للسخرية منها، بشكل لائق فكثيرون حلموا بكل شراسة، وهم الأن يبكون جلهم بكل شراسة أيضاً، لكن الشعوب لا تبوح بكلمتها إلى أحد، رغم كل صناديق الإنتخاب، وللمرة الأولى يصبح الإنتظار أدباً مناسباً للمثقفين، وخطة مواتية للتواضع...