وصف الكتاب:
إن كثيراً ممن يفتقرون إلى حسن الإدراك وعمق المعرفة، ينظرون إلى العصور الوسطى في أوربا نظرة تختلف كثيراً عن الواقع، فهم لا يرون في العصور الوسطى إلا بربرية القوط وهمجية الوندال وأشباههم من شعوب الجرمان؛ ولا يريدون أن يربطوها إلا بتزمت الكنيسة وفوضى الحروب والإغارات، واستبداد الحكام والأمراء. ومن الواضح أن هذه النظرة تتجاهل ظاهرة التفاوت الحضاري بين مختلف أنحاء أوربا، والتغييرات الاقتصادية الهامة التي ألمت بالمجتمع الأوربي في العصور الوسطى، إثر تدفق التيارات الجديدة التي تحمل العلم والمعرفة من الشرق. هذا فضلاً عما في هذه النظرة من تنكر صريح لما حدث في العصور الوسطى من حركات استهدفت إحياء الحضارة القديمة وابتكار عناصر حضارية جديدة ميزت تلك العصور وأعطتها طابعاً حضارياً خاصاً بها. وبناء على ذلك يعتبر تاريخ القرون الوسطى من أشد عصور التاريخ تعقيداً وتنوعاً وأهمية. فدراسة هذه الحقبة من التاريخ التي امتدت ألف عام تتناول تشكيلة ضخمة من الشعوب والنظم والحضارات، وهي تشكيلة تعبر عن جانب هام من جوانب تطور التاريخ البشري، فضلاً عما تحويه من كثير من أصول الحضارة الحديثة. ذلك أن القرون الوسطى تمثل العصر الذي بدت فيه بوضوح مظاهر الاختلاف بين الشرق والغرب، وبين بلاد الشمال وبلاد حوض البحر المتوسط، وبين القديم والجديد، وبين التيارات الدينية والدنيوية؛ وبين الأفكار المثالية والحقائق الواقعية. هذا إلا أن توسط مركز القرون الوسطى من الناحية الزمنية، وارتباطها الشديد بالعصور القديمة من ناحية وبالعصور الحديثة من ناحية أخرى، جعل لها مكاناً بارزاً في تطور التاريخ البشري الذي امتاز دائماً بالاستمرار واتصال حلقاته. هذا ما يحاول المؤلف في هذا الكتاب إلقاء الضوء عليه في محاولة لدراسة حضارة ونظم أوربا من العصور الوسطى.