وصف الكتاب:
تمتعت بعض مدن الشرق الأدنى بشهرة واسعة في فترات مختلفة من تاريخها القديم نظراً لما كان لها من مكانة سياسية أو دينية، فبعض هذه المدن كانت تمثل وحدات سياسية أو تشكل دويلات مدن تتصارع فيها بينها من أجل الزعامة أو فرض النفوذ والسيادة على غيرها، ولعل مدن سومر القديمة مثل أور ولجش والوركاء وغيرها هير دليل على ذلك-ومن المدن التي اشتهرت في التاريخ كذلك تلك التي كانت تمثل عواصم الدول الكبرى مثل منف وطيبة في مصر وبابل وأمد وآشور ونينوي في بلاد النهرين وخاتوساس في آسيا الصغرى وبرسبوليس في إيران وغيرها. وغلى جانب تلك المدن التي استمدت شهرتها من مكانتها السياسية كانت هناك مدن أخرى تستند في شهرتها إلى مركز ديني كان يرجع في أغلب الأحيان إلى ما توارد من أساطير حولها، ومن أمثلتها هليوبويس (أون) وطيبة في مصر ونيبور في بلاد النهرين وغيرها. وربما كان استناد مدن الشرق الأدنى القديم في شهرتها إلى مكانتها السياسية أو الدينية هو الشائع في تاريخها القديم. ولم يشذ عن ذلك إلا المدن الفينيقية التي تمثل حالة فريدة في ذلك الإقليم، فقد استغلت ظروف بيئتها أحسن استغلال ونالت شهرة عريضة لم تستند إلى مكانة سياسية أو دينية، كما أن من الغريب أن المدن الفينيقية الشرقية الأصيلة لم تلعب دوراً فعالاً في السياسة الدولية كالذي فعلته المدن الفينيقية الغربية الوليدة- وربما كان السبب في ذلك يرجع إلى أن المدن الفينيقية الشرقية كانت في طريق الدول التي ظهرت كقوى كبرى في الشرق الأدنى القديم ولم تتهيأ لها الفرصة كي تصبح في مصاف هذه القوى بل وكثيراً ما وقعت تحت سيطرتها أما المدن الفينيقية الغربية وخاصة قرطاجة فقد نمت وترعرعت بعيداً عن مواطن الصراع في الشرق الأدنى حتى أصبحت أكبر قوة في حوض البحر المتوسط وظل الأمر كذلك إلى أن ظهر اليونان ومن بعدهم الرومان ودب التنافس بينها وبينهما على السيادة على حوض البحر المتوسط إلى أن قضى الرومان عليها نهائياً. ومهما يكن من أمر هذه المدن الفينيقية سواء الشرقية منها أو الغربية فإنه شهرتها كانت تعتمد في أساسها على نشاطها الاقتصادي الذي هيأ لها مكانة تجارية مرموقة بين أقطار العالم القديم. وما من شك في أن ازدهار تجارتهم ونجاحهم في تبادلهم التجاري مع مختلف الجهات قد أثار فيهم حب المغامرة للوصول إلى أسواق جديدة والبحث عن سلع مرغوبة فلم يقتصروا على الاتجار في منتجاتهم بل تبادلوا مختلف السلع مع الأقطار الأخرى، وقد جعلهم تنقلهم بين مختلف الأقطار رسل حضارة ينقلون مظاهرها بين قطر وآخر كما تأثروا بثقافة البلدان الأخرى وأثروا فيها، وحتى في أوقات ضعفهم لم تفقد المدن الفينيقية أهميتها أو يتضاءل شأنها من الناحية الحضارية إذ أنها تركت بصماتها في التاريخ أكثر من غيرها من مدن الشرق الأدنى القديم. ورغم ضخامة الدور الحضاري الذي قامت به المدن الفينيقية فإن تاريخها توجد به كثير من الفجوات ولا يمثل سلسلة متكاملة الحلقات، فضلاً عن أن كثيراً من أحداث هذا التاريخ أمدتنا به مصادر أقطار وأمم أخرى، ولذا فليس من الهين جمع شذرات الأحداث التاريخية التي وصلتنا عن هذه المدن في إطار تاريخي متكامل. وهذا ما تحاول هذه الدراسة القيام به إذ أنه تهتم بإلقاء الضوء على تاريخ الوطن الفينيقي، وعلى نشاط بعض المدن الفينيقية وتأسيسها، وعلى النشاط الاقتصادي والعسكري والأدبي الذي كان سائداً في تلك الفترة، وعلى النظم السياسية المعمول فيها بهذه المدن وأيضاً اهتمت الدراسة بالكشف عن الصراع القرطاجي اليوناني والصراع بين قرطاجة وروما...