وصف الكتاب:
فهذه بحوث ومقالات، كتبت في أوقات متباعدة، ونشرت في مجلات مختلفة(2)، ومما لا زلت أذكره: أن بعض هذه المقالات نشرتها عقب خروجي من معتقل السجن الحربي في صيف سنة (1956م)، وذلك في مجلة «منبر الإسلام» التي كانت تصدرها مراقبة الشئون الدينية بوزارة الأوقاف المصرية. كنت أوقع على هذه المقالات باسم: «يوسف عبد الله» خشية أن يثير لقب «القرضاوي» اعتراض «المباحث» التي وقفت لي بالمرصاد في كل طريق، في ذلك الحين، وحرمت عليَّ أي عمل حكومي في أي مجال يتصل بالجماهير، كما في مجال التدريس، ومجال الدعوة والإرشاد وهما المجالان المتاحان لي، واللائقان بتخصصي وتكويني. وقد حدث أن تقدمت للتدريس في معاهد الأزهر، وكان اسمي أول اسم في قائمة المقبولين حيث كان مجموعي أكبر مجموع في المتقدمين من كليات الأزهر الثلاث: أصول الدين، والشريعة، واللغة العربية، ولكن حين عرضت الأسماء على المباحث حذف اسمي من بينها؛ لهذا حرصت على ألا أوقع باسمي الصريح المعروف، حتى لا أنبه الأجهزة المتربصة. ومن الطرائف التي تذكر هنا: أن كان في الشئون الدينية بالأوقاف موظف إداري اسمه: يوسف عبد الله، فلما نشر مقالي الأول بعنوان: «أمنية عُمَرية» بتوقيع «يوسف عبد الله» ظن هذا الموظف أن أحد المشايخ كالشيخ الغزالي أو الشيخ سيد سابق، كتب المقال ووقعه باسمه، ليستفيد منه، ويصرف المكافأة المخصصة له، وقد سارع بالفعل لطلب المكافأة وأوشك أن يتم له ذلك، لولا أن زميلًا له كان يعرف السر، فأخبره: من هو كاتب المقال؛ وهكذا كادت تضيع الجنيهات الخمسة، التي كانت في ذلك الوقت ثروة كبيرة بالنسبة لي! لا أدري لماذا طافت بي هذه الخواطر، وأنا أكتب هذه السطور؟ ولكن لعل في سردها عظة وعبرة، وتذكرة لنفسي وللناس، وقد أمرنا الله أن نذكر بأساء الماضي، لنقارنها بنعماء الحاضر، فنذكر آلاء الله تعالى وفضله، ونشكره على ما أنعم وأولى. ومن هنا ذكر الله سبحانه رسوله صصص والمؤمنين معه في المدينة بما كانوا عليه في مكة، فقال: {وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ أَنتُمۡ قَلِيلٞ مُّسۡتَضۡعَفُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فََٔاوَىٰكُمۡ وَأَيَّدَكُم بِنَصۡرِهِۦ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (الأنفال: 26) . والمهم في هذه التقدمة: أن هذه الكلمات -وإن اختلفت أزمنتها وأمكنتها وظروف كتابتها- تنبع كلها من عين واحدة، هي عين الإسلام الشامل المتوازن، الإسلام القوي الذي لا يضعف، الآمل الذي لا ييأس، المقاوم الذي لا يلقي السلاح، فجرت هذه العين هموم المسلمين التي لا تزيدها الأيام إلا الامتداد طولًا وعرضًا وعمقًا! كما أنها جميعًا -قديمها وحديثها- تتجه إلى مصب واحد، وتسعى إلى هدف واحد: هو الإسهام في إيجاد صحوة إسلامية حقيقية أصيلة، تتميز بالرشد والنضج والاستنارة؛ صحوة عقول ذكية، وقلوب نقية، وعزائم فتية؛ صحوة تعرف غايتها، وتعرف طريقها؛ تعرف من لها، ومن عليها، من هو صديقها، ومن هو عدوها. صحوة تعمل على تجديد الدين، وإنهاض الدنيا به؛ صحوة تصحح المفاهيم المغلوطة، وتقوم المسالك العوج، وتوقظ العقول النائمة، وتحرك الحياة الراكدة، وتنفخ الروح في الجثة الهامدة، فتعيد إليها الحياة والحركة والنماء. وها نحن بحمد الله نرى من معالم هذه الصحوة اليوم، ما لم يكن واضحًا للكثيرين من قبل، ونحمد الله أن مداد العلماء ودماء الشهداء، وكلمات الحداة، وجهود الدعاة، وجهاد المصلحين، لم تذهب سُدًى، ولم تكن - كما ظن الظانون - صيحة في واد، أو نفخة في رماد، بل آتت أكلها في حينها بإذن ربها، وصدق الله العظيم إذ يقول: {أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا كَلِمَةٗ طَيِّبَةٗ كَشَجَرَةٖ طَيِّبَةٍ أَصۡلُهَا ثَابِتٞ وَفَرۡعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ * تُؤۡتِيٓ أُكُلَهَا كُلَّ حِينِۢ بِإِذۡنِ رَبِّهَاۗ وَيَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ} (إبراهيم: 24، 25) . أسأل الله الكريم ذا الفضل العظيم الذي جعل يوم هذه الصحوة خيرًا من أمسها، أن يجعل غدها خيرًا من يومها ... اللهم آمين. {رَبَّنَا تَقَبَّلۡ مِنَّآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (البقرة: 127)