وصف الكتاب:
في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر ميلادي تباعد الزمن عن عصر النبوة فانغمست النفوس في الغفلة واللهو، وفسدت الأخلاق، وانتشرت أماكن الفسق والفجوة، وقست القلوب. كما انتشرت الوساوس والوشايات والسعايات، واشتد الاستبداد والتعسف، والظلم، وكثرت الدعوات السياسية، وتعددت الحروب الطاحنة الداخلية والخارجية، فنكب الناس واجتاحتهم المحن والمصائب، وطحنتهم الرزايا والنوائب، وكاد التصوف الإسلامي ينحرف عن مساره المعتدل بما شاع من دعاوى الوصول إلى الحقيقة التي تسقط عندها الفروض والتكاليف الشرعية، وما تبع ذلك من شطحات ونزعات ونظريات فلسفية كوحدة الوجود والاتحاد والحلول. أضف إلى ذلك أن جهل العديد من المشايخ الصوفية قد أدى إلى انتشار الجهلة والدهماء الذين أشاعوا الخرافات والأباطيل، ونشروا الخزعبلات والدجل... فشوهوا صورة الإسلام وحقيقة التصوف، ونزلوا بالعقل إلى مستويات متدنية. كذلك ظهرت في هذا العصر طائفة من المتهافتين على التصوف لاتخاذه وسيلة لتحيق أغراضهم وتلبية أطماعهم، وتجاسروا على الكذب والبهتان والزور لينالوا ثمناً قليلاً فضلوا وأضلوا. فعلت القلوب الحناجر تجأر إلى الله أن يهبها داعية مخلصاً صادقاً أميناً جريئاً لا يخشى في الله لومة لائم، زاهداً في كل ما يحرص عليه أهل الدنيا، مرشداً عارفاً، شفوقاً بعباد الله، رؤوفاً بالمستضعفين. مقتدياً بخاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم. لذلك قام في مختلف أنحاء البلاد الإسلامية الدعاة الربانيون والوارثون المحمديون يدعون الناس إلى العودة إلى الإيمان الصحيح، والتخلص من سلطان الهوى والشهوات. الواقع أن الشيخ عبد القادر كان من الرجال الأقوياء الذين يظهرون في كل عصر يشهد انحاطاً وتفككا وتراجعاً وزيفاً وبدعاً وانحرافاً وضلالاً في الحياة الروحية. وقد تمكن بفضل ما وهبه الله تعالى من علم ومعرفة وقوة حجة وعزيمة، من بعث كوامن القوة في شباب الأمة، ودفعهم إلى التخلي عن الإسراف والتبذير، ونبذ الشرك، وانحلال الضمير، ومحاربة الإلحاد والزندقة، وإنكار البدع والانحرافات، والقضاء على المفاسد والآفات... غير هياب من مستبد أو ظلم لأنه مع الحق عز وجل ولا يخاف إلا من الحق وحده. كل ذلك دون أن يحيد عن الشريعة أو أن يتجاوزها إلى شطحيات أو آراء ونظريات فلسفية، فكان يعلنها على رؤوس الأشهاد صرخة مدوية تدعو إلى الالتزام بالشريعة، وبكل ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، واجتناب ما نهى عنه عليه السلام. لذلك أثنى عليه وامتدحه كبار علماء الأمة وشيوخها وفي طليعتهم شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 729هـ/1328م) الذي اشتهر بحملاته العنيفة على المنحرفين والمرتدين، وما ذلك إلا لأن الشيخ عبد القادر كان قد أتقن علمي الأصول والفروع ثم ربط تصوفه بالكتاب والسنة. وتبرز أهمية هذه الدراسة التي بين يدينا انطلاقاً من اهتمامها بالكتابة عن هذا الشيخ الجليل وتلاميذه القادرية، بأسلوب علمي موضوعي، تجلى بترك الأطناب والبعد عن التجني الذي التزمه المفترون. وهكذا جاءت هذه الدراسة موزعة على قسمين، تحدث الأول عن حياة الشيخ بغداد عبد القادر، وذكرت آراءه في العديد من مقامات وأحوال الطريق إلى الله تعالى، أما الثاني فخصص لأعلام القادرية أي المشايخ الذين حاولو السير على نهج الشيخ عبد القادر والنسج على منواله، مع إغفال ذريته الذين لم يشتهروا بهذه الطريقة.