وصف الكتاب:
الموسيقى والغناء نشاط إنساني، يمثل في حياة الأمة جانباً من جوانب حضارتها. ولكل حضارة عدد من الوجوه والجوانب. فهناك الجانب العلمي والفكري والآخر الأدبي والثالث الاجتماعي والرابع الاقتصادي، ومن أبرز تلك الجوانب النشاط الفني. ويعد الغناء أبرز وجه فيه. وهذا الكتاب يتناول هذا الوجه من خلال دراسة لأبرز علماء الموسيقى والغناء في العصر العباسي الأول. وإذا كان التركيز على هذا الجانب الذي تجسدت فيه علاقة إسحاق الموصلي بالبلاط العباسي من خلال اتصاله بخلفائه وأمرائه ووزرائه وقادته، فلا يذهب الظن بالقارئ أن الحياة العباسية اقتصرت على هذا الجانب. وأن البلاط العباسي لا هم له في صباحه ومسائه إلا إقامة حفلات الطرب، وسماع الموصلي وأضرابه من المغنين والمغنيات، والضرب على آلات الطرب وشرب النبيذ. أقول: لا يظن القارئ ذلك، وإلا فأين نضع الجانب السياسي ونشاطه، وما وصلت إليه البلاد من تنظيم في العلاقات؟ وأين نضع الفتوح وما وصلت إليه الدولة من اتساع في رقعتها، ومحاربة الأعداء وتجييش الجيوش، وظهور أسماء لامعة من القادة الأفذاذ من خلال بروز شجاعتهم وكفاءتهم في المعارك وساحات القتال؟ وأين نضع النشاط العمراني في بناء المساجد والقصور وفتح الأنهار والجداول والترع، وانتشار الخصب؟ وأين نضع النشاط التجاري والاقتصادي الذي بانت فيه بغداد بما يأتيها من السلع المواد والطرائف من كل أصقاع الدنيا في نعيم دائم؟ وأين نضع النشاط الاجتماعي، وما تجدد فيه من ظهور عادات وتقاليد متطورة؟ وأين نضع النشاط الفكري من خلال ظهور المدارس الفكرية والمذهبية في الدين والفلسفة. هذه هي وجوه الحضارة العربية الإسلامية في زمن العباسيين. ولم يكن لهذه الوجوه أن تزدهر لو لم يقف الخلفاء بكل قوتهم على إقامتها فكانت أيامهم موزعة على جعلها حية نابضة بالنشاط الدائم، لأن في ديمومتها بقاءهم. كما ترى فإن هذا الكتاب تناول جانباً واحداً من جوانب الحضارة العباسية، خصوه برعايتهم عندما يجدون أن الفرصة متاحة للترويح عن أنفسهم وأن هذه الفرصة ربما لا تأتي إلا مرة واحدة في الشهر أو في الأسبوع. وليست في كل أيام الأسبوع كما يتبادر إلى الأذهان. نقول هذا، إذا علمنا أن قسناً من الخلفاء -لانشغالهم الدائم- كانوا يخصصون يوماً واحداً في السنة لاستقبال الشعراء -وقبول مديحهم- مع حبهم الشديد للشعر.