وصف الكتاب:
في ذلك اليوم رأى والدي في المنام أنه أدخل قطة صغيرة، تستدر العطف والمحبة للمنزل بعد أن كانت عند الباب، شاهدها أثناء عودته من المسجد، روت أمي لي المنام ثم قالت : بعده كان ميلادك. لم أفسر الرؤيا أو أفكر فيها بقدر ما شدني أنني أتيت، في لحظة ما، وزمن لا أعرف فيه أي شيء، أتيت نابضة بالحياة، أكافحها بصرخة، وأقاومها بأطراف ناعمة كأن حركتها المتوترة والمتتابعة تقول : ما الذي تريدينه مني يا دنيا؟! على الأقل، ابتعدي عني في هذا الوقت!. تعلمت مع أول خطوة ثمن أول شيء أتقاضاه، فلم أسير على أقدامي إلا بعد عثرات وسقطات، ومحاولات، والثمن بحجم النجاح، فكانت الفكرة : أن تسير لابد أن تسقط، وأن تسقط لا يعني أنك لن تسير بعد السقوط، أنت رفيق العثرات يا ابن آدم، فما دمت تسير ستسقط دائما، لذلك حافظ على اتزانك تقل عثراتك. جُبلت على التحدي والقوة، ولم أكن أعلم –على التحديد- لماذا لا أستجيب لأوامر المدرسة والبيت، ليس القبول ما يثير دهشتي الآن، بلالرفض، لماذا كنت أرفض الأوامر باستمرار مع أني كنت أدرك حجم العقوبات خلفها، وتدخل النبذ بشكل مستمر؟! لماذا رجحت أن أُقصى رغم أنه كان بإمكاني أن أقترب؟!. كنت لا أهدأ عن المشاكسة، ويعجبني توجيه أجواء الفصل على ما أريد حتى لو انزعجت المعلمة أو عطلت الدرس. ما هذا التهكم، والتحكم، أي جبروت طفولي ذاك الذي لازمني في مراحل طفولتي الأولى، ولكن لا شيء بلا معنى، والمعنى الذي لامسني فيما بعد، أنني حقا أكره الأوامر، خاصة إذا تعارضت مع ذاتي، وهي حينها منزعجة لاختلال جزء من سكينتها وتعبر عن ذلك الجانب بطريقتها، فعرفت لأي درجة أنا واضحة ومتسقة مع نفسي. في مسيرتنا كاملة سنجد أن بعض المواقف تُزرع في دروبنا ليس لنتخطاها وننسى، بل لنعرف من خلالها من نحن، لذلك لا يختبر الإنسان مدى ضعفه البشري حتى يمرض، وصعوبة السيطرة على نفسه حتى يُبتلى بالذنب، فتنكسر في داخله أبواب ومساكن، ويعود بكامل فقره ومسكنته بقلبه المطمور في الرمال منزوع الحول والقوة. البدايات خطوط عريضة لما سنكون عليه، وإن كانت ستتغير ففي التفاصيل لا الجوهر، فغالبا هناك مقدمات تمهد بالمستقبل وتشي به ولكن لا ندركها. في لحظة ما؛ تعلمت ألا أخاف، وحصل الأمر بالتعلم، وصعقت حينما أدركت أن نزع الخوف من النفس لا يكون جبلة دائما، بل ممارسة، فكانت خطواتي الثانية وتعلمي للمشي في ممرات أخرى من جديد، وبعد أن كنت أرى بمخيلتي صور وهمية ترعبني في الظلام، أصبحت أداهم الظلام والنور معا دون رفة جفن، شيء ما كان عالق في أعماقي ثم سقط، فهمت سر الرهبة والشك، والدواء لكل هذه العواصف بعد أن أفلتت جميع الأيدي يدي وتمسكت بحبل الله المتين. كان الدرس الأقوى، أن تكتشف لغز القوة والضعف والانكسار والحيرة، كل شيء يحتاج صلابة الإيمان، واحتجت إيماني، فبحسب ما فهمت من الدرس أني سأتعثر من جديد لو لم أبحث عن اتزاني، والإيمان هو الداعم الأقوى في الوجود. فُتحت لي أبواب كثيرة، وقفت أمامها بازدراء من لا يريد إلا درب واحد، سير باتجاه واحد، وهذا التحكم والوضوح أعادني لمراحل المشاكسة، وكيف كنت أرفض ما لا يتسق معي .. لذلك لا أريد إلا ذلك الباب الذي اخترته بكل إرادتي، باب الله؛ نعم بابه، فلم تعد تغريني الدنيا، فقدت حاسة التذوق لمثل هذه الإغراءات الباهتة، لا يوجد ما يستحق العناء، لماذا سأضحي من أجل الباخرة التي تنقلني ولا أهتم بوجهتي في الضفة الأخرى؟!. تبدلت نظرتي للحاجات من حولي، بعد أن كانت بديع، جميل، مذهل، رأيت كُنُّها وعرفت أن القشور قد لا تقول عما بداخلها، وأحيانا تُظهر العكس. فهمت لأول مرة معنى أن لا تكون مُحاطا إلا بذاتك من جميع الجهات، أن ترتبك من وجود جدار حاجز بينك بينها، أن تحاول هدمه بكل ما أوتيت من قوة، وهذا ما جعلني أفهم ضعفي البشري، وأن الامتلاءات التي تم حشوي بها من زميلات الدراسة، كانت ليس إلا تمهيدا لحصول هذا التصلب الذي احتجت في تلك الفترة هدمه حتى أرى وأستشعر حاجتي لله، لمن يرشدني، ويقيني التغول الداخلي الذي بدأ يكتم أنفاسي، ويسد منافذ النور. انسكبت كاملة، نزلت دمعة واحدة من عين تريد أن تبصر، تبللت علّ البذرة التي في أعماقي أن تنمو، وسألت الرحمن أن لا يجعل المطر ذلك اليوم ينتهي إلا وهدايتي للحق أول بشرى، ثم دخلت المنزل وأنا ذلك العصفور المبلل بالمطر، والمطأطئ الجناح. والعجيب أنه وقع في نفسي كاليقين أن الله استجاب الدعوات، وبالله أنه استجابها حتى لم أعد أعرفني في نفس الليلة، ليست هذه أنا، فأنا تطربها الموسيقى، وأنا لا تكترث لغير سعادتها، وأنا لا تتحمل هم منتصف الليل والخجل من الله أن تسمع أغنية وهو على نزول يستجيب فيه. تبدلت كلماتي، كأن اللسان تم تغييره، ولكن لا عجب طالما القلب اغتسل، فشعور الطفولة والخفة صاحبني بشكل لا يُصدق حينما اخترت باب الله، ورغم أني لم أكن مبتهجة بصخب، لكني كنت مرتاحة، شعرت أن هذا القرار رغم صعوبته أهم خطوة وخطة في جدول مراهقة طائشة، فحلّ الأمان محل الثورة، والسكينة فوق الغضب، والذّكر بدل السخريات اللاذعة، وتهميش الناس. تنفست الحب بشكل عميق، حينما عرفت الله، كان حبي من النوع المتراكم، فكل يوم كان رصيد جديد بمشاعر أخرى واكتشاف جديد لألطاف لم ألحظها، فتراكم في صدري لدرجة المسؤولية، كان نداء المسؤولية تجاه ديني هو نداء الحب تجاه ربي، أحببته حبًا لو أعلم أن الحياة الباقية ستكون خالية منه لبغضتها، وتمنيت مغادرتها، فكل أحلامي وآمالي ارتبطت بهذا الحب لدرجة أنه أصبح الغاية والوسيلة معا. حينما تتمحور حياتك حول هدف، تجد في نفسك الرغبة في إتمام المسير ومواصلة الصبر بل والجدوى فما بالك لو تمحورت حول أن يحبك الله، وكيف ستصل لهذا المستوى الرفيع من علاقة العبد بربه، ثم تطأطئ خجلا بهل أنا أستحق؟!. لو سُئلت عن أجمل ما تعلمته على الإطلاق من أيامي المكتضة بالدروس لكان بلا تردد أني تعلمت أن أفلت يدي!. نعم أفلت يدي؛ منالناس والدنيا والأمل فيهم والرجاء منهم والتعلق بهم. أن أقاوم إغراء الظواهر فلا يصرع قلبي شكل أو رمز أو فكرة، أن أفلت يدي وأفرغها حتى من نفسي؛ أن لا أبني في عقلي صور مختزلة، ضيقة، وأتوه فيها وأغرق رغم علمي بأن كل شيء ليس إلا وهم ما عدا وجه الله. وكم أحياني هذا اليأس وحررني !.