وصف الكتاب:
استمراراً للمشروع الذي عملت عليه دار الوراق بتقديم بحوثٍ وكتبٍ تسلِّط الضوء على مناطق مهمة من مساحة البناء الإسلامي الأولي وانعكاس ذلك البناء على الوضع الثقافي والفكري التي تعيشه الشعوب العربية والإسلامية في الوقت الحالي . لقد تمّ اختيار هذا البحث المهم، الذي يسلّط الضوء على موقف الأصولية من تقبّل العلوم غير الإسلامية، وانعكاس هذا الموقف على التطوّر الفكري والعلمي في العالم الإسلامي . كانت الحياة العامة خلال المئة والخمسين الأولى من تاريخ الإسلام الأولي ذات نمط حربي، حيث انشغلت السلطات بالفتوحات وبتثبيت حكم الأقاليم وأسلمت الشعوب المفتوحة ولم يثمر عن ظهور أفكار فكرية عميقة تشغل المجتمع الثقافي في ذلك الحين. كان العصر العباسي الأول وبناء بغداد قد ساهم بظهور حركات ثقافية كبيرة وتلاطم أفكار نتيجة حملات الترجمة التي قام الخلفاء العباسيون الأوائل لها، لقد ساهم سكّان العراق وبلاد الشام الآراميون مساهمة كبيرة في تطّور هذا الفكر الحضاري، تمثّلت في عملية الترجمات من اللغات اليونانية والآرامية والفارسية والتي كان يجيدها سكّان تلك المنطقة إلى اللغة العربية ، فكيف مدينة مثل بغداد بُنيت عام 145 للهجرة أن تصبح عاصمة الشرق خلال خمسين عاماً لولا المخزون الفكري والثقافي والحضاري الموجود في تلك الأرض. يقول آدم ميتس: «بغداد، المدينة الإسلامية الأولى التي لم تتطوّر عن معسكر للجيش، وذلك بدون سياسة عربية داخلية وبدون مصالح للعائلات ومن دون تقاليد. هنا نمت طبقة وسطى جديدة كليّاً رسخت نتيجة القوة المركزية التي كانت تعيشها المدينة(دار الإسلام) بكاملها . لقد أنتجت تلك المرحلة التاريخية فكراً عقلانيّاً بُني على الموروث الفلسفي لحضارات بلاد الرافدين والفارسية والحضارة اليونانية. يقول بيرغل: «مع العلوم اليونانية دخلت إلى بيت الإسلام المقدَّس قدرة وثنية تستحق الاحترام أو أنها، حسب الموقف ، ذات بُعد خطير مهدّد . أدّت هذه العملية الى حدوث زلزال فكري لم تهدأ أمواجه إلَّا بعد مرور عدَّة قرون. ولكن في الوقت نفسه حدث هذا الاستقبال بفضل طموح الدوائر العقلانية والاهتمامات العلمية التي أرادت زيادة مقدرتها الذاتية عن طريق امتلاك الإرث اليوناني». إن المشكلة التي تواجهها في الوقت الحاضر المجتمعات الإسلامية في بناء الدولة المدنية والمرتكزة على الفصل بين السلطة الدينية والسلطة الدنيوية كانت قائمة في تلك المرحلة، وقد تصدّى لتلك المعضلة الفكر المعتزلي من خلال طروحات تصدّى لها الأصوليون وقضوا عليها في القرن الرابع- الخامس الهجري. أضفنا في هذا الكتاب فصلاً له صلة بموضوع البحث للبروفيسور بيرغل، وهذا الفصل يعزِّز الكتاب من الناحية العلمية ، ووضعنا دراسة عن المؤلف بقلم د.عبد الرحمن بدوي، وقائمة لبعض مؤلفات تسيهر. من مقدمة المؤلف تحت تعبير «علوم الأوائل» أو «علوم القدامى» وأيضاً «العلوم القديمة» يفهم في الأدب الإسلامي، خلافاً لعلوم العرب، والعلوم الحديثة، وعلى الأخص العلوم الدِّينيَّة (الشريعة)، تلك الفروع من العلوم التي دخلت إلى دوائر الثقافة الإسلامية تحت تأثير مباشر أو غير مباشر للكتب المأخوذة من الأدب الهيليني («كتب الأوائل») أي إنَّه ينتمي إلى هذه العلوم، جميع علوم الموسوعة الإغريقية الفيزيائية والميتافيزيقية، الفروع المختلفة للرياضيات، والفلسفة، وعلوم الطبيعة، والطب، والفلك، ونظرية الموسيقى، وغيرها. وبما أنَّ رعاية العلوم التصقت بالمتناقل من الأفلاطونية الجديدة، فإنَّها، بصرف النظر عن علم التنجيم، تضمنت أيضاً تمارين من عالم السحر ومعارف من الممارسات السحرية المختلفة أُدخلت إلى دائرة «علوم الأوائل» وإلى علوم الفلاسفة. على الرغم من الرعاية الواسعة التي لقيتها تلك العلوم منذ القرن الثاني الهجري، ومن العناية التي لقيتها من الخلفاء العباسيين ومن القبول في الدوائر الدِّينيَّة الإسلامية ذات العقل المنفتح، كان هناك أُصولية صارمة تنظر على الدوام بعين الشك والريبة إلى أولئك الذين «تركوا علم الشافعي ومالك ورفعوا في الإسلام رأي دقلس إلى مستوى القانون». إذ اتهم بالزندقة أُناس من مثل علي بن عبيدة الريحاني الذي كان الخليفة المأمون قد جعله من حاشيته، وأبي زيد البلهي، بسبب كتبهم ذات الاتجاه الفلسفي. مع تزايد سيطرة الأُصولية المظلمة ازدادت حدة عدم الثقة لدى الدوائر الدِّينيَّة للإسلام الشرقي ضد نهج علوم الأوائل. ومن أقدم الأمثلة على ذلك قلق الفيلسوف الكندي خلال فترة عودة الأُصولية في عهد الخليفة المتوكل. إلَّا أنَّ هذه العوائق لم تؤدِّ، لحسن الحظ، إلى فشل العناية المتواصلة بهذه العلوم. ولم يقتصر عدم الثقة بالمعنى الضيق على الأبحاث الفلسفية فقط. فالغزالي يشكو من أنَّ المتدينين يشعرون بنفور طبيعي من بعض العلوم كفنّ الحساب والمنطق، فقط لأنَّه يُقال: إنَّها تنتمي إلى علوم الفلاسفة الملحدين على الرغم من أنَّها لا تعترضها بنفي ولا إثبات. إنَّ الاسم «فلسفة» وحده هو الذي يجعلهم ينفرون من العلوم المرتبطة بشكل ما بالفلسفة، مثل من يريد خطب فتاة جميلة، لكنَّه يتراجع عن ذلك عندما يعلم أنَّها تحمل اسماً ما هندياً أو سودانياً كريهاً. وهو يحسب لهم هذه المعارضة العنيدة خطأ أكبر لأنَّهم يحتاجون لعلمهم ذاته إلى الهندسة والمنطق. فقط يمكن أن يقدّر كفكرة ذكية البرهان الذي اعتمده مفسّر القرآن المرسي المعاصر لياقوت وهو أنَّ القرآن يحتوي على إشارة إلى مختلف «علوم الأوائل»، وحتى إلى المنطق والرياضيات والطب وعلم الفلك وغيرها، كما ونجد فيه إشارة إلى الحِرَف اليدوية المختلفة وإلى الفروع الصناعية وغيرها لكن المسلم التقي يجب عليه تجنُّب تلك العلوم كعلوم معادية للدِّين. وطبقوا عليها دعاء النبي إلى أن يحميه الله «من علم لا ينفع» الماوردي (المتوفى سنة 450هـ) وهو في مجاله الحقوقي عالم كبير وفي طريقة تفكيره الدِّيني معتزلي يعترض صراحة على تطبيق أقوال النبي الكثيرة، التي يدعو فيها إلى طلب العلم، على غير العلوم الدِّينيَّة، أي ليس على العلوم العقلية («العقليات»). والحنبلي تقي الدِّين ابن تيميّة لا يفهم تحت كلمة «علم» إلَّا العلوم الموروثة عن النبي. كل ما عدا ذلك إمَّا إنَّه غير نافع أو ليس علماً على الإطلاق وإن أُعطي هذا الاسم. يرى الإسباني إبراهيم بن موسى من ختيفا (المتوفى سنة 790هـ) أنَّ معظم علماء الدِّين الأُصوليين يرون فقط أن تلك العلوم تستحق الاهتمام التي تثبت ضرورتها وفائدتها لــ «الأعمال» الدِّينيَّة؛ وكل ما عدا ذلك لا نفع له ويؤدِّي إلى الخروج عن الصراط المستقيم، وحتى ضمن علم الدِّين يميز بين المعرفة الجوهرية والمعرفة غير الجوهرية التي لها أهمية تجميلية فقط. يطلق على «علوم الأوائل» صفة «علوم مهجورة» وتُسمَّى «حكمة محشوَّة بكفر». وهي تقود في النهاية إلى الكفر، وبالتحديد إلى «التعطيل»، أي إلى تجريد مفهوم الإله من كُلِّ مضمون إيجابي. ومن الممكن بيان ذلك من مثال شاعر المقامات عبد الله بن ناقيا (المتوفى سنة 485هـ في بغداد) الذي أدَّى بعلومه إلى «التعطيل» وإلى محاربة الشريعة، أو مثال أحمد النهرغوري (نهاية القرن الرابع أول القرن الخامس) اللغوي والشاعر الذي كان واسع الاطلاع على الفلسفة وعلى «علوم الأوائل» ولم يكن يخفي قناعاته الإلحادية. مع هذه العلوم ترافقت دراسته يداً بيد مع تحقير الشريعة. وكان ابن ثابت بن ساهور من بادرايا (المتوفى سنة 596هـ)، الذي عاش في بغداد ولعب هناك دوراً مفيداً بسبب اطلاعه الواسع على مختلف العلوم، قد نال حظوة عند الخليفة الناصر الذي كانت له معه اتصالات سرية. كان هذا الخليفة، مثل كثيرين من الخلفاء العباسيين الذين جاؤوا قبله وبعده، يعلّق أهمية كبيرة على مشاركته في المعارف الدِّينيَّة، على سبيل المثال، في إسناد الحديث أيضاً لكي يظهر كناقل موثوق. وحصل منه أبو الفضل الأردبيلي (توفي سنة 636) على «إجازة» لنقل الأحاديث التي كان يتلقاها من الخليفة. وكان الخليفة يلقي محاضرات عن مسند أحمد بن حنبل وأعطى ابنه وأربعة من علماء الحنابلة، كان يسمح لهم بالدخول إلى محاضراته، «إجازة» بنقل المسند بناءً عليها منه. وكان ابن ثابت المذكور آنفاً يشرح للخليفة المتعطش إلى المعرفة «علوم الأوائل» «وهوّن عليه علم الشرائع». وليس ملفتاً للانتباه أنَّ ابن ثابت نفسه كان «متهماً في دينه». وقد يكون ليس صدفة أنَّ الصوفي شهاب الدِّين عمر السهروردي قد أهدى الخليفة الناصر كتابه المضاد للفلسفة اليونانية «كشف القبائح اليونانية ورشف النصائح الإيمانية». وهذا الصوفي نفسه ألَّف علاوة على ذلك كتاباً آخر معادياً للفلسفة بعنوان: «أدلة العيان على البرهان في الردّ على الفلاسفة بالقرآن».