وصف الكتاب:
لقد قامت لجنة النشر في الدار عند الشروع في عمل هذا العمل الكبير بمراجعة العديد من طبعات الكتاب القديمة والحديثة المنشورة ومقارنتها وتلافت النواقص والأخطاء وقامت بوضع بعض الهوامش والملاحظات، وعملت على إخراج الكتاب بشكل حديث ومرتب مع مقدمة للبروفيسور بيرغل، و كذلك وضعت دراسة شاملة عن كل ما كتب عن المقدمة بجميع اللغات نأمل أن يكون عملنا هذا قد ساهم في إغناء المكتبة العربية بحلّته الجديدة . البروفيسور يوهان كريستوف بيرغل أبو علم التاريخ الحديث ابن خلدون (1332 - 1406م) وُلد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون سنة 1332م في تونس لعائلة من إشبيلية وتوفي، بعد حياة زاخرة بالتقلبات، سنة 1406م في القاهرة. وكان قد انتقل إلى هناك سنة 1382م حيث كان يُعلِّم في جامعة الأزهر ويعمل قاضياً مالكياً. وتولَّى مناصب سياسية عالية في العديد من حواضر زمانه: في فاس، وغرناطة، وتلمسان، وقام ببعثتين مهمتين: الأولى، كمبعوث لحاكم غرناطة زار ملك قشتالة المسيحي، وذهب بتكليف من السلطان المملوكي إلى دمشق حيث قابل تيمورلنك، القائد الغاشم للحملة المغولية الثانية. وهو يتحدث عن ذلك في سيرته الذاتية. اكتسب ابن خلدون شهرة أبدية بمقدمته الشهيرة لكتاب العبر التي أرسى فيها أُسس علم الاجتماع في مختلف وجوهه حتى قيل فيها: إنَّها خزانة علوم اجتماعية وسياسية واقتصادية وأدبية. وهي محاولة لوضع نظرية لحركة التاريخ. وهو يشتق ديناميكية التاريخ من التناقض بين سكَّان المدن (الحضر) والبدو. والحضارة («العمران») تتشكَّل في المدن عندما تنجح أسرة في إنشاء دولة مستقرة. ولكن نتيجة لتكديس الثروة يحدث ارتخاء وميل إلى الراحة والعيش المرفّه، وتتحلّل الأخلاق العامة، وينتشر الحسد وعدم الثقة. ونتيجة للهدر غير المحدود يصبح الحاكم عاجلاً أم آجلاً غير قادر على دفع مستحقات قواته. ولكي يحمي نفسه من هجوم هذه القوات يستخدم قوات لحراسته مؤلفة من غرباء ليس لهم أي صلة عاطفية تجاه شخصه، ولذلك يزيحونه غالباً ويستولون على السلطة. إلَّا أنَّ نهاية حكم أسرة من الأسر يمكن أن تأتي من الخارج: رجل قوي يجمع حوله جماعة تربط فيما بينها روح القتال («العصبية») ومن وسط بدوي غير مستهلك، فتُسقط الأسرة الحاكمة المتداعية وتحتل مكانها. ثم تبدأ الدورة التاريخية ذاتها من جديد. داخل هذا الإطار يبحث ابن خلدون جميع جوانب الحضارة والعلوم والفنون والحياة الدِّينيَّة. ولذلك سمَّاه بعض العلماء الحديثين «أبو علم الاجتماع». نظرية ابن خلدون عن «العصبية»: في سنة 1406 توفي في القاهرة واحد من أشهر المؤرخين في العصر الإسلامي الوسيط وأحد منظّري التاريخ المهمين القلائل في تلك الحقبة. لا بل إن المؤرخ الأمريكي المشهور غ. سارتون Sarton ذهب إلى أبعد من ذلك ووصفه بأنه «أعظم مؤرخ في العصر الوسيط، (...) وواحد من أوائل فلاسفة التاريخ» والذي مهّد لمجيء ماكيافلي Machiavelli، وج. بودان J.Bodin، وغ. فيكو G.Vico، وأوغوست كونت A.Comte . كما أنهم سموه أيضاً أبا علم الاجتماع الحديث. وأكمل توينبي Toynbee هذا الثناء بأن غمره بالعديد من الصفات المطلقة التي لا مثيل لها على مرّ الزمان: وبالفعل فإن «مقدمة» ابن خلدون عن التاريخ والمؤلفة من ثلاثة مجلدات هي عمل مدهش إلى أقصى الحدود. فهي تحاول تصنيف المسارات التاريخية منهجياً واستنباط القوانين التي تحدد حياة الناس مع بعضهم ودور الدين والسلطة والثقافة في مئات الصفحات يفكر ابن خلدون بالتفصيل في جميع هذه الجوانب مستفيداً من الأمثلة الكثيرة المعروفة بالنسبة له والمأخوذة من مجريات التايخ. فكتابه يستحقّ فعلاً بالغ الثناء. مع ذلك يجب ألا نتغاضى عن أن ابن خلدون ليس أصيلاً إلى هذا القدر كما يبدو للوهلة الأولى، من ناحية، وأن عقلانيته لها، من الناحية الأخرى، حدود واضحة تضعها له عقيدته الإسلامية. وهذا رأي يتبناه في الفترة الأخيرة أيضاً الباحث المتخصص في دراسة ابن خلدون، م. بيتزولد Pätzold. أهمية نظرية ابن خلدون بالنسبة إلى الباحثين واضحة تماماً وستزداد وضوحاً بعد قليل، وإن كنا يجب أن نستعرض أولاً بعض الأمور لكي نقدمها ولو بخطوطها العريضة فقط. ينطلق ابن خلدون من وجود علاقة وثيقة بين الإنسان والوسط الذي يعيش فيه، كما نعرفها من الطب اليوناني والجغرافيا اليونانية؛ نذكّر بهذا الخصوص بكتاب أبقراط المشهور «عن الأجواء والمياه والأمكنة» الذي أعطاه م. بولنتس Pohlenz العنوان السائد اليوم «عن البيئة». حسب هذه النظرية يؤثّر المناخ على الإنسان ويحدّد إلى درجة كبيرة طابعه وثقافته. ولكن الميتافيزيقي، ما وراء الطبيعي، الذي يمتد عند ابن خلدون من المملكة السامية العليا للألوهية الإسلامية وحتى منخفضات السِّحر، يتحكم بالإنسان والطبيعة. واستناداً إلى التقليد الإسلامي - القرآن والحديث - يؤمن ابن خلدون إيماناً راسخاً بأن جميع هذه الظواهر فوق الطبيعية هي حقيقة واقعة. في بحثه عن علم الإنسان نرى ابن خلدون متقيداً بقطبية صورة الإنسان الإسلامية التي أشرنا إليها أعلاه والمرسومة في القرآن، أي إنه من الناحية الأولى، يرى في الإنسان ذروة عالم منظم هيرارشياً (تراتبياً)، لكنه يجد فيه، من الناحية الأخرى، كائناً بهيمياً. فلو ترك الناس وشأنهم لافترسوا بعضهم البعض. وتندمج صورة الإنسان الثنائية المتناقضة هذه في فكرة مدينة الدولة اليونانية (Polis). فالحاجات البشرية لا يمكن إشباعها إلَّا جماعياً. أي إن وجودها يستند بالضرورة إلى تقسيم العمل. لكن المجتمع البشري يحتاج أيضاً بالضرورة إلى قائد أو حسب تعبير ابن خلدون إلى «مقمع». إلَّا أن هذا المقمع، بالنسبة إلى ابن خلدون وخلافاً لما هو الحال عند الفارابي، لا يجب أن يكون فيلسوفاً بالضرورة. إذا ما اجتمع عدة أشخاص عقلاء وشكلوا جماعة ينشأ ما يسميه ابن خلدون «عمران» أي ما يقابل في لغتنا تعبير «حضارة» أو «مدنية». وهنا يرى ابن خلدون فرقاً جوهرياً بين المدينة والريف: الشكلان الاجتماعيان المختلفان جذرياً واللذان يعرفهما التاريخ هما «البداوة» التي يفهم ابن خلدون تحتها جميع أشكال الحياة غير المدينية، أي القرية أيضاً، و«الحضارة» أي الحياة المدينية. ديناميكية التاريخ تنتج بالنسبة له بصورة جوهرية عن التضاد بين المدينة والريف. إلى جانب العمران يأتي التعبير المركزي الثاني في نظريته عن التاريخ ألا وهو تعبير «العصبية» الذي يشتقه هو نفسه ألا وهو «العصبة» الذي يعني الجماعة، أي إن العصبية تعني «الروح الجماعية» أو «روح الجماعة» أو «الشعور التضامني» وهي ترجمة تبدو صائبة لأن كلمة «تعصب» المشتقة من الجذر نفسه تعني «فاناتيسم» (تعصب). والجماعة ذات العصبية الأقوى تستولي على السلطة، ومن يستطع أن يجمّع حوله غالبية العصبية يكن القائد. وإذا ما انعدمت العصبية تزول السلطة، سواء سلطة الفرد أو سلطة الجماعة. وإذا ما جمعت مجموعة، أو شخص منفرد، حولها ما يكفي من العصبية فإنها تتمكن من تأسيس «دولة» أي إقامة «ملك». والممالك تنشأ وتزول مع تأسيس مثل هذه الدول التي لكل منها عمر محدود. لكن هذا الوضع كان مختلفاً فقط في فجر الإسلام بسبب مفهوم الدولة النقي وغير الأرضي الذي كان سائداً آنذاك أو بالأحرى بسبب التدخل المباشر ﷲ في حركة التاريخ - بكلمات أخرى: لأن السلطة آنذاك كانت مباركة. يؤدي تأسيس الدولة إلى تطور المدن وفي المدن ينشأ «العمران». ويؤدي تجمّع الناس إلى فائض في قوة العمل. وهذا الفائض يجعل من الممكن، بالإضافة إلى تلبية الحاجات الضرورية، تحقيق بعض وسائل الراحة في بادئ الأمر، ولكن بعد ذلك العناية بالفنون والعلوم التي لا تجلب ربحاً مباشراً لكنها مع ذلك تعني تحقيق الطموحات الإنسانية الأعلى في مملكة الروح والفكر بينما تمثل العناية بالفنون حالة من الترف الخالص. لكن الترف يؤدي أيضاً إلى التراخي الأمر الذي يؤدي حتمياً إلى انحدار الدولة (الأسرة الحاكمة) وفي النهاية إلى سقوطها. ولكن هناك عوامل أخرى تشارك في هذا التطور. يصف ابن خلدون هذه العملية بالخطوط العريضة على الشكل التالي: تولّد رغبة المجموعة الحاكمة في السيطرة على جميع مصادر السلطة والثروة توترات في المجتمع وتؤدي إلى حدوث اغتراب وخيم بين الحكام وأولئك الذين تستند سلطتهم إلى عصبيتهم. ولذلك تضطر الأسرة الحاكمة إلى الاعتماد على دعم عسكري خارجي لحماية حكمها، أي إلى استخدام حاميات عسكرية أجنبية (أحد أسباب سقوط الخلافة العباسية). وفي الوقت نفسه يكلف الترف المتزايد كثيراً من الأموال ممّا يضطر الدولة من أجل الحصول عليها إلى فرض مزيد من الضرائب، الأمر الذي يؤدي عاجلاً أو آجلاً إلى انهيار النظام الاقتصادي. وهكذا تفقد الأسرة الحاكمة السيطرة، في كثير من الأحيان يبقى الحاكم حاكماً بالاسم فقط بينما يمارس السلطة حاكم آخر لكنه لا يستطيع انتزاع السلطة بالكامل طالما بقي غير قادر على جمع عصبية كافية. أما العصبية الجديدة فلا تتشكل عادة في المدينة وإنما بين البدو حيث تتوفر، نتيجة لطريقة الحياة الخشنة، القوة الفظة وغير المستهلكة التي تضمن نجاح العمليات العسكرية. هكذا يسير مجرى التاريخ في عمليات دورية متعاقبة. لا تستمر حياة أسرة حاكمة، في العادة، أكثر من ثلاثة أجيال حيث يشمل كلّ جيل نحو 40 سنة، الأمر الذي يثبته ابن خلدون بتيه بني إسرائيل 40 عاماً في الصحراء. أما القيمة الحقيقية بالنسبة لموضوعنا فتكتسبها هذه النظرية من السياق الديني الذي يضعها فيه ابن خلدون. فمهما كانت تبدو أيضاً علمانية فإنها مفصّلة تماماً وبالضبط لتقديم تفسير لنشوء الإسلام. «في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتمّ»، هذا هو عنوان أحد الفصول في كتابه. وفي مكان آخر يؤكد أن العصبية مفيدة ومطلوبة «من أجل الجهاد ونشر الإسلام». كان ابن خلدون، الذي دار كثيراً في العالم وتولى مناصب سياسية عالية في بلاط العديد من الأسر العربية الحاكمة في الأندلس وشمال أفريقيا أي الذي كان لديه خبرة عملية واسعة، يرى أن المشكلة الكبرى في زمانه تكمن في ضعف العصبية الإسلامية العامة وهذه المشكلة تزداد سوءاً وخطورة بسبب ما لاحظه من نهوض ثقافي ويقظة فكرية في أوروبا وما يقابله من انحطاط في بلاده. لكنه أعاد هذا النقص إلى عدم وجود شخصية قيادية كبيرة قادرة على جمع الناس وتوحيدهم. أما أمله في أن القائد المغولي تيمورلنك يمكن أن يكون الشخص المطلوب بدا له فترة من الزمن متحقّقاً إلى أن تبين له من خلال مسيرة التاريخ، وعلى أبعد تقدير بعد لقائه الدراماتيكي مع الفاتح العالمي العبقري الغاشم، أن هذا الأمل لا أمل في تحقيقه. إلى جانب الشخصية القيادية القوية المستندة إلى العصبية اللازمة تحتاج الدولة المزدهرة أيضاً إلى «تعظيم الشريعة وإجلال العلماء الحاملين لها والوقوف عند ما يجدونه لهم من فعل أو ترك، وحسن الظنّ بهم واعتقاد أهل الدين والتبرّك بهم ورغبة الدعاء منهم». مثل هذا الموقف مرتبط بالعدالة وبجميع الفضائل الأخرى. لكن ابن خلدون يعيد تحقّق هذا الموقف كما يعيد نقيضه أيضاً - أي العيوب وجميع التصرفات التي تؤدي إلى انحطاط الدولة - إلى إرادة اﷲ مستنداً في ذلك إلى الآية القرآنية: سورة الإسراء:الآية 16: كما أن الإصلاحات هي أيضاً «قضية إلهية لا تتحقّق إلَّا بإذن اﷲ وعونه». وبذلك فإن نظرية ابن خلدون عن التاريخ تتطابق من حيث المبدأ مع مفهومنا. فعندما يشكو من ضياع السلطة المشرعنة إسلامياً في عصره وما قبل عصره فإن هذا يعني أنه يبحث نقدياً عن أسباب نشوء وخلفية هذه الشرعية التي تمارس دوراً كلامياً بطبيعة الحال. أما مدّ هذا البحث النقدي عن الأسباب ليشمل أيضاً بدايات الإسلام وتوسعه العسكري وإخضاعه بالقوة لإمبراطوريات عملاقة، فلم يفعله ابن خلدون مثلما لا يفعله اليوم معظم المفكرين الإسلاميين الحاليين.