وصف الكتاب:
عتاد الريفيون على نظم الحياة والموت فى عُقد الأيام، حلقة تلو حلقة، الحياة بالأبيض والموت أبيض أيضا، تعلموا جميعا أن الحُزن العميق يستدعى أحزانا أخرى، أشد عمقا وأطول أثرا، أقله أن الحزين قد يمرض ويموت مقهورا بألمه، فتكون خسارته، وخسارة ذويه أكبر، ليس لها من راد، كل الذين يعيشون على الفطرة يرون ولادة الحياة ونهايتها عشرات المرات فى أعمارهم القصيرة. كم من قروية، حممت صغيرها فى ليلة عيد، وصففت له شعره، بعد أن دهنته بالزيت، ثم ألبسته رداء نظيفا أو جديدا، وقبل أن يٌغادر عتبة البيت ليلهو مع أقرانه فرحا، سقط أمامها بلا حراك بينما كانت تدعو له فى سرها بطول العمر وبالسعادة، كم من امراة ماتت، وهى تلد، فأنقذوا وليدها ببدائيتهم الحميمية، ووجدوا له من ترضعه، وتمنحه حياة لم ترها أمه، يحدث ذلك معهم بصور مختلفة. رجال يعزقون زرعهم، تحت قيظ الشمس الحارق، حتى لا تأكل الحشائش غذاء نبتهم، فيضعف، فجأة يسقط شقيق لهم ميتا، قد يكون أكثرهم صحة، وأحدثهم عُمرا، فيحملونه إلى مثواه، ويتقبلون فيه العزاء، وفى اليوم التالى يذهب بعضهم، ليعزقوا الغيط نفسه، تحت الشمس نفسها، وإلا فاتهم دور الرى، الذى يأتى كل عشرة أيام لأرضهم الشراقي، فيضطرون لريها بحشائشها، فلا يجدون محصولا ليحصدوه، ولا يجدون ما يطعمون به صغارهم، أو يسددون به ديونهم طوال موسم طويل قادم، أو يبذرون تقاوى المحاصيل، فتظل تحت التراب أقله أربعة أيام متوالية ينظرون إليها بعين الرجاء، ثم يشق العود الضعيف الأرض، أبيض مذججا برأس أخضر هزيل، ينمو يوما بعد يوم، فيزداد اخضرارا، وبريقا حتى يُخرج ثمره، فيمنعون عنه الماء لتذبل أعواده وتصفر، فيجزونها جزًا من الأرض فرحين بانتهاء دورتها. الموت والحياة فى الأرياف وفى الصحارى- أكثر من غيرهما- يستقلان قطارًا واحدًا...