وصف الكتاب:
حين يستعرض المرء تاريخ العلاقات بين المبدعين والمثقفين عموما في الحياة الأميركية الحديثة، ويطّّلع خصوصا على المعارك التي ظلّ الكاتب غور فيدال يخوضها طوال العقود الأخيرة من حياته، لا سيما بعدما استتبت له الشهرة، وبات واحدا من كبار الروائيين في الولايات المتحدة، سيصعب عليه أن يتصوّر كيف تمكّن هذا الكاتب من أن يكون غزير الإنتاج على النحو الذي كانه بالفعل، وكيف قُيّض له، وسط معاركه - الحزبية كمرشح بائس الحظ لمنصب من هنا وموقع من هناك على لوائح الجزب الديموقرطي حينا و"حزب الشعب حينا آخر – ولكن كذلك مع زملائه ومعاصريه مثل ترومان كابوتي أو توم وولف أو أحيانا نورمان ميلر، أن يضع كل ذلك المتن الذي خلّفه من أعمال أدبية لعل أقل ما يقال فيها أنها أحدثت تجديدا كبيرا في الأدب الروائي الأميركي ولكن كذلك في كتابة تاريخ تلك الأمة. والحال أننا إذ نقول هذا لا نقصد، بالطبع، أن فيدال كان ذا وجهين، وجه الروائي من ناحية ووجه المؤرخ من ناحية ثانية. كان الاثنين معا وفي النص الواحد. وعلى الأقل في عمله الرئيس المتعدد الأجزاء المعروف بصورة عامة تحت عنوان "سرديات الإمبراطورية". و"السرديات" المعنية هنا هي ست روايات – أو سبع إذا شئنا أن نكون أكثر دقة كما سنرى – بينما "الإمبراطورية" ليست سوى الولايات المتحدة نفسها. نشر غور فيدال هذه الأعمال تباعا بين عامي 1967 و2000 في وقت نعرف أن الولايات المتحدة كانت تتعرض فيه الى أقسى ما أصابها طوال تاريخها، لا سيما تحت وطأة هزيمة فيتنام وصورة الجنود الأميركيين عائدين في توابيتهم من حرب كانت قد بدت غير مجدية منذ زمن؛ كما تحت وطأة فضيحة ووترغيت وإقالة الرئيس نيكسون بعد تجريمه في الكونغرس كما في المجتمع الأميركي ككل. في غمرة ذلك كله كما في غمرة اشتداد الحراكات الطلابية الفاضحة ليس فقط للمؤسسة الأميركية بل حتى لبناء الأمة نفسه، راح فيدال يطرح على نفسه أسئلة لعل أشدها قسوة ذاك الذي يتساءل عما إذا لم يكن الفساد والخطأ موجودين أصلا في النسيج الذي انبنت الأمة عليه طول القرنين التاسع عشر والعشرين وعرضهما، وفي المجالات كافة. والحال أن الكاتب عرف كيف يقدم جوابه في سلسلة الروايات الضخمة التي راح يصدرها تباعا، التي نتوقف هنا خاصة عند تلك التي شكّلت الجزء الخامس لتعنى بالعلاقة المتشابكة بين السلطات الأميركية وعاصمة السينما. ولكن قبل ذلك قد يكون من الضروري التوقف عند الأجزاء الأخرى تباعا. ففي عام 1973 نشر فيدال الجزء الأول من السلسلة بعنوان "بارّ" وفيه يتابع حكايات الآباء معيدي التأسيس بين عام 1775 و1840 وعلى رأسهم آرون بارّ، وهو شخصية حقيقية لعبت دورا أساسيا في بناء الولايات المتحدة كأمة ودولة منطلقة من حربها الأهلية. ولقد امتلأ هذا الجزء بالشخصيات التاريخية بدءا من الآباء المؤسسين بالفعل أنفسهم، جورج واشنطن وتوماس جيفرسون وصولا إلى كتاب مثل واشنطن إيرفنغ. لكنه جعلهم جميعا يتحلقون من حول بارّ، ولكن أيضا من حول بضع شخصيات متخيَّلة جعل لها فيدال أدوارا رئيسة ستلعبها من جزء إلى آخر. وهنا إن تساءلنا أين هو أبراهام لينكولن سنجد الحواب في الجزء الثاني الذي تمتد أحداثه بين 1861 و1867 وفيه يطالعنا لينكولن كمحور للأحداث وسط رهط من شخصيات حقيقية أخرى، ولكن بالتمازج خاصة مع شخصيات متخيَّلة كنا طالعناها في الجزء السابق مثل تشارلي وإيما شويلر وويليام ديلاتوش غلانسي مرورا بويليام سانفورد. وإذ يحمل هذا الجزء تحديدا عنوان "لينكولن" نجد الجزء التالي يحمل عنوان "1976" لتتمحور أحداثه حول الأعوام 1975 – 1977 ما يجعله الأقصر زمنيا ولكن الأكثر تكثيفا بين الأجزاء كافة جاعلا من صمويل ج. تيلدن شخصيته المحورية متحدثا عن "سرقة انتخابات الرئاسة الأميركية" وما تلاها من مستتبعات. وهنا كذلك إذ تتوالى الأحداث مع شخصيات معروفة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا في التاريخ الأميركي نجدنا مع من تبقى من شخصيّات متخيّلة وقد أُضيف إليها جملة شخصيات أخرى ستواصل مسيرة التاريخ في الأجزاء التالية موزعة على مجالات اجتماعية وعلى أحداث عديدة تزول فيها الفوارق بين المتخيّل والحقيقي كالعادة لتسهم في صناعة التاريخ الأميركي الحديث جاعلة من أميركا صورة للعالم بنجاحه وفساده وتشابك علاقاته. وقد لا نكون في حاجة هنا إلى التذكير بأن أميركا التي نعرفها اليوم إنما ولدت من رحم ذلك التاريخ. إمبراطورية فاسدة يحمل الجزء الرابع عنوان "إمبراطورية" ما يعني أنه يتوقف حقا عند الولادة "الأممية" لتلك الأمة التي تُقدّم لنا هنا على حصان بين القرنين الفائتين (تحديدا بين 1988 – 1907). وهنا لا تعود أمامنا شخصية تاريخية محورية، بل مجموعة من شخصيات تتساوى أدوارها في انبثاق الإمبراطورية عند ذلك المنعطف التاريخي، وحيث يلعب المبدعون والمثقفون أدوارا أكثر أهمية (إمبراطور الصحافة ميليام هيرست، الذي سنجده أساسيا في الجزء التالي، وهنري جيمس الذي سيرمز بأدبه إلى عودة أميركا للانفتاح على جذورها الأوروبية) هذا بينما تواصل الشخصيات المتخيّلة دورها (كارولين وبليز ستانفورد ومسز ديلاكروا). وهنا قبل التوقف في الجزء السادس وعنوانه "واشنطن دي.سي" عند السنوات الفاصلة بين 1937 – 1952 حيث تطالعنا الحياة السياسية في العاصمة أيام فرانكلين روزفلت وهاري ترومان تباعا، ينقلنا فيدال في الجزء الخامس إلى هوليوود في عصرها الذهبي بين 1917 و1923 حيث لا تزال بقية من شخصيات تاريخية تلعب دورها في المجتمع والسينما وإن قل عددها وقلت أهميتها طالما أن هوليوود الأحلام والخيال كان في تلك الحقبة مرتعا للتحرك الفني والسياسي بحيث في مقابل جملة من شخصيات حقيقية ارتبطت بعاصمة السينما ومناورات الحياة والسياسة والاقتصاد فيها، قد تنتفي الحاجة إلى شخصيات مختَرعة. وهكذا نجد تاريخ هوليوود وتاريخ الأمة يُكتبان في سياق واحد مع تركيز على الحياة الداخلية لرؤساء من تلك الحقبة مثل وودرو ويلسون ووارين هاردنغ وتشارلي شابلن وويليام هيرست وفرانكلين واليانور روزفلت وماريون دايفيز ومابيل نورماند، يتحركون أمامنا في حيواتهم الداخلية المدهشة، كما على شاشات الأحداث الحقيقية وتلك السينمائية لنرى كيف تمكنت "السينما الهوليوودية" الصامتة ثم الناطقة من صياغة الهوية القومية للشعب الأميركي، ورسم صورة لهذه الأمة قفزت أمام العالم كله وقد اشتغل عليها من حوّلوا الفن السينمائي إلى ذلك "البزنس" الذي عرفناه طوال القرن العشرين. في رسمه لصورة تلك العلاقة الصارمة بين ما يظهر على الشاشات وما عرفته حياة البيت الأبيض وكذلك إدارات تحرير الصحف وممرات وقاعات شركات الإنتاج الكبرى وفي بيوت الأعيان، قدّم غور فيدال في حقيقة الأمر واحدة من أقسى ولكن أيضا واحدة من أفصح الصور التي رسمت صورة ليس فقط للسينما، تختلف عما عهدناه من الصور الهوليوودية، بل كذلك صورة للسياسة الأميركية تظهرها وكأنها حفل سينمائي طويل. والحقيقة أن ذروة هذا العمل الروائي التاريخي الأخاذ بلغت أوجها في الجزءين الخامس والسادس اللذين تحدثنا عنهما هنا بحيث تساءل كثر من النقاد عما إذا كان غور فيدال (1925 - 2012) مصيبا حقا حين ألحق بروايته جزءا سابعا سماه "العصر الذهبي" وعاد فيه إلى السنوات 1939 – 1954 ثم إلى العام 2000 ليعيد "تصويب" بعض الصور التي رسمها للتاريخ الأميركي مازجا من جديد بين التاريخيّ والمتخيّل ولكن هذه المرة – وكما قال أحد نقاده – فقط ليصفّي حسابات له مع بعض خصومه من كتّابه المعاصرين، ما تسبب له بمزيد من "معارك" رافقته حتى أيامه الأخير وحوّلته من كاتب روائي كبير إلى مصارع وأحيانا الى "شتّام" كما قال عنه ترومان كابوتي الذي كان يوما من أقرب أصدقائه. غير أن هذا لا يكفي لإبعاد فيدال عن مكانته كواحد من كبار الكتاب الأميركيين في القرن العشرين وتحديدا بأعمال قد لا تكون "سرديات الإمبراطورية" غير قمة جبل الجليد فيها.