وصف الكتاب:
في مجموعته القصصية الأولى "تليفون بقرص" الصادرة عن دار "ابن رشد" في القاهرة، يأخذنا القاصّ المصري طارق فهمي حسين في رحلة نوستالجية إلى تفاصيل زمنٍ آخر، زمنٍ ربما لم نَعِشْهُ تماماً، لكننا لا زلنا نحتفظ منه بلمحاتٍ متوهِّجَةٍ، مثل توهُّج شعلة وابور الجاز أسفل صفيحة الغسيل، أو سطح الصاج المتعرِّج لباب جمعيةٍ استهلاكيةٍ في وسط القاهرة. تضم المجموعة اثنتين وعشرين قصة قصيرة، منها "تليفون بقرص، على باب مدرسة البنات، مكتبة التحرير، أهل الله، محاولة فاشلة، منديل أزرق وجناح بعوضة ولستُ خبيراً بالطيور، وعبده وعزيزة، وهي القصة التي يستهِلّ بها المجموعة، وفيها يصف بحساسيةٍ شديدةٍ أجواءً شديدة الحميمية لحياة أسرةٍ متوسطةٍ تستعين بعم عبده لتنظيف البيت كل ثلاثاء، وبالست عزيزة للغسيل كل خميس. عبده وعزيزة وأجواء البيت المصري يحكي طارق فهمي حسين بطريقته المتدفقة تفاصيل جلسة عزيزة أمام الوابور، وصوته المزعج الذي يُطربها وحدها ويجعلها تشعر بأهمية ما تقوم به، حتى وإن كان ببساطة إلقاء قطع الملابس في مياه مغليّة مع قطعة زهر الغسيل ثم عصرها بقوةٍ تُثير تعجُّبها. على الرغم من أن القصة لا تحمل سوى ملاحظات طفلٍ لما يدور حوله، انزعاجه من صخب ترتيب البيت والمسح والكنس، إلا أنها في ذات الوقت بمثابة تسجيلٍ مقروءٍ لفترةٍ تبدو ضبابيةً بشكلٍ أو بآخر، تفاصيل حميمية يكمن داخلها كل شيء، واستعادة لعناصر كانت يوماً موجودةً بكثرة في كل مكانٍ حتى أننا لم نلحظها، واليوم بعدما اختفت صارت تراثاً يستجلب الدهشة والحنين، مثل إبرة الوابور وعصا "الغليّة" ونبتة الفول المزروعة في علبة مُبَطَّنَة بالقطن الطبّي. تليفون الاتصال بالماضي في قصة تليفون بقرص التي تحمل المجموعة اسمها، يشتري بطل القصة "تليفون" أنتيكة بقرص دائري يعود به إلى الطفولة، التليفون السحري يصِلُهُ بالماضي، إلى أوقاته السعيدة وسط والديه، مكالماته الليلية مع الحبيبة الأولى، واتصاله بأبيه في روزا اليوسف، أو بأمه في عملها، ينتهي به الأمر إلى الاتصال بالطفل داخله، ويُدْهِشُهُ أنه يردُّ عليه. الكاتب يبدو وكأنه عالقٌ بين زمنين، لا يجد راحته سوى باستعادة الماضي، رغم ما يحمله من سلامٍ نفسيٍّ نحو الحاضر. وهذا ما يتضح جداً في قصة "على باب مدرسة البنات"، التي يتلاشى فيها بالفعل حاجز الزمن، حتى أن البطل يتخيَّل أنه لم يَفُتْ على لقائه بحبيبة الصبا سوى ليلةٍ واحدةٍ، فيتَّجِه في الصباح إلى باب مدرستها، ليكتشف مرور السنين الطويلة، ويبدأ في الإحساس من جديدٍ بآلام شيخوخته وأثر الزمن عليه وعلى كل شيءٍ من حوله. هذا الارتباط بالحب الأول يتَّضِح في قصص عديدة داخل المجموعة، مثل قصة "عزاء"، لكن ثمّة عنصر آخر وهو السخرية الخفيفة من شخصياتٍ تحيط بنا، شخصيات تخلق لنفسها هيبةً ما تجعلُها أضخم وأهَمّ، لدرجة أنها تستغرب شعورها الطبيعي بالحاجة لتلبية نداء الطبيعة أو ركوب المواصلات مثل قصة "آلهة العجوة"، ومن عناصر باتت عادية جداً مثل الأغاني الصاخبة والمسلسلات التافهة والفن المُشَوَّه في قصة "قابع في الركن"، الراوي في هذه القصص يتأمل العالم المتغيّر بعين طفلٍ مندهشٍ، طفل يُعَبِّر عن رأيه بهذه السخرية المبطَّنَة. وهو الخيط الذي يجمع بين كل قصص المجموعة. فرادة المشاهد العادية في قصصه، يتوقف طارق فهمي حسين عند مشاهد عادية قد تمُرُّ علينا جميعاً مرور الكرام، لحظات يتأمَّلُها هو بحساسيةٍ كبيرةٍ، مثل تحطُّم هاتف على الأرض، أو خروج رجلٍ على المعاش، أو توقُّف لمطالعة الوجه في مرآة، كما يدمج الخيال بالواقع برِقَّة، ويستوحي من الأفلام والأغاني والشِّعْر ما يُعينُه على وصف الحالة. في القصة رقم (60)، لا يُعاني البطل من وصوله لسن المعاش أو يشعر بأنه انتهاء حياة، على العكس، يدرك في هذا اليوم بالذات أن الحياة كلها أمامه، وأن وجهه ما زال يعكس شبابَ روحِهِ، يتبادل نظرات الإعجاب ويُغَنّي مع راديو السيارة، ويضحك مع زوجته في طريقهما للنادي، هذا الرجل يتسامح مع السن رغم أنَّهُ في قصة "غياب بدون إذن" والتي تبدو وكأنها جزءٌ أوَّل للقصة السابقة، يشعر بثِقَل الزمن، وثِقَل العمل، وأن حياته انسلَّتْ من بين يديه دون أن يَعيشَ حقاً، أو يمارس ما يحب. "سبع سنين فقط؟ كم كان عجولاً ملولاً هذا الـ"أيوب"! كل هذه الأسطورة عن الصبر تدور حول سنواتٍ سبع فقط؟ أستحِقُّ تمثالاً بالحجم الطبيعي إذن، في كل الميادين وكل العواصم! نعم، أنا الموظف عبر العقود الطويلة، أنا الروتين اليومي البطيء القاتل الخالي من أيّ مفاجآتٍ سوى رحيل الأحبَّة المفاجىء من حين لآخر، أنا سيزيف جالساً على مكتب. سبع سنين؟ غمضة عين هي يا سيدنا، يا أيوب عليك وعلينا السلام." الرمزية تُظْهِر العوالم المتناقضة ثم يعود الكاتب في قصة أهل الله ليستعرض بساطة وأحلام خادمة في المنزل، لا تُريد شيئاً سوى أن تجد هاتفها الذي سقط من الشرفة سليماً، لدرجةٍ تُثير دمع الراوي عندما يدرك هشاشة العالم، ويقارن بين الهاتف الرخيص القديم وصلابته، وبين هواتف ثمينة كانت ستتفتت إلى آلاف القطع لو تعرَّضَتْ لنفس الشيء. الرمزية في كل قصةٍ تدور حول هذه العوالم المختلفة والمتناقضة التي نحيا فيها، حيوات تتداخل مصائرها بشكلٍ لافتٍ، وقشور تُخفي أحلاماً وأقنعةً زائفةً ومساراتٍ كثيرة. كما في قصة "على جناح بعوضة"، التي يلتقي فيها المُعَزّون في موت شاب بحفل زفاف صاخب في نفس الكنيسة. في قصص: "هواجس"، و"في طريق العودة"، و"قصة قصيرة جداً"، تظهر الرمزية بوضوح في التعبير عن الحياة والموت والذاكرة ومرور الزمن، تَحَوّل الوجه في المرآة أو الرحيل مع آخر قطار في المحطة أو ملاحظة الحياة من خلف لوحٍ زُجاجيٍّ شفّاف.