وصف الكتاب:
"صمت عباس قليلًا قبل أن يطرح سؤالًا أولاه أهمية قصوى: - أتعرف يا عليّ أين نحن في هذه اللحظة؟! كان عليّ يعرف الأمير جيدًا فأدرك في الحال ما يلمِّح إليه، وأجاب على الفور: - أجل... إنَّه المطمع الأكبر في مصر! - وأكثر من ذلك: بسبب هذا المكان باتت مصر بكاملها عرضة لأطماع أوروبا! لديَّ انطباع بأني سأحكم ذات يوم البلد الأغلى في العالم لأنَّه بالضبط معبر بين الشرق والغرب... هل تتخيل يا عليّ، إذا شُقَّت قناة السويس ذات يوم أن يهتم الأوروبيون، وفي مقدَّمهم الفرنسيون، بالفلاحين البائسين في صعيد مصر؟ هل سيضعون مصالح المصريين في الحسبان، أم سيفكرون في مكاسبهم الخاصة فحسب؟ لم يُجبه عليّ لأنَّه يعرف رأي الأمير بالأوروبيين، ولا سيما الفرنسيين منهم. ويعرف تفكير عباس في حملة نابوليون التي تشكل مثالًا لمحمد علي، والميول الاستعمارية المخفيَّة خلف نيّات طيّبة مزعومة. تابع عباس حديثه بلهجة ساخرة: - أنا على يقين تام بأنهم لن يجلبوا يدًا عاملة أوروبية ناعمة لشقها! ولماذا يفعلون ذلك، إذا كانت تلك اليد العاملة، في متناولهم، ومجانية، فضلًا عن ذلك! أواه، يا علي، كيف سأحكم بلدًا كلَّما أراد فيه أجنبي أن يبني بيتًا ليسكنه، استعمل يدًا تبنيه دون مقابل... أيسمح الله بذلك؟ حاشا لله، جل جلاله، أن يقبل بهذه السخرة! فالله عادل! استغرق قطع البحر الأحمر ثلاثة أيام كاملة. و انصرف عباس، خلال اجتياز تلك المسافة، إلى التأملات، وتلاوة القرآن، والكثير من البوح للمؤتمن على أسراره. استُقبِلَ المحمل فور وصوله إلى ميناء جَدَّة، مع شروق الشمس، بحفاوة وبذخ. وافاه جمهور كبير، بسبب الطابع المقدس الذي يتسّم به، بلا ريب، ولكن أيضًا لما شاع، في المدينة، مسبقًا، أن عباسًا هو الذي يتولى المهمة. وعلى رأس جمهور المنتظرين المحمل، فوق الأرصفة، والي المدينة، ابن عم عباس. الذي عيَّنه محمد علي في قيادة حامية جدة، كمكافأة لجرأته وشجاعته إبّان الحرب على الوهابيّين. لقد أمسك أحمد باشا بمدينة الميناء بيدٍ من حديد، وذاعت شهرته في أرجاء شبه الجزيرة. وليرسخ الوالي سلطته، وضع تحت تصرفه وحدة عسكرية، بقضّها وقضيضها. وقد شكَّلت عودة وهابيي نجد الذين سحق إبراهيم باشا منطقة نفوذهم، الدرعية، هاجسًا لوالي القاهرة، كما للسلطان محمود في الآستانة. فمصر محمد علي خرجت لتوّها مما قد يسميه التاريخ الحرب المصرية – الوهابية، أو حملة شبه الجزيرة العربية التي دامت سنين طويلة قبل القضاء على أتباع محمد بن عبد الوهاب وحليفه محمد آل سعود. ساعد أحمد باشا في حكمه عسكريٌّ فرنسي اهتدى إلى الإسلام قبل وقت قصير. وكان صديقًا لسليمان باشا، مدرّب جيوش محمد علي، وشريكه في مختلف الحروب والحملات التي خاضها. كان من أصل كورسيكيّ، كان اسمه السيد ماري، وصار باقر بعد اعتناقه الإسلام، وعند ترقيته إلى رتبة عقيد، حصل تلقائيًّا على لقب "بك". حتى ذلك الحين، لم يكن عباس قد خالط قطُّ الفرنسيين الذين كان جدّه يُكرم وفادهم في مصر. فتمَّ إذًا تقديم باقر بك لعباس، ورافق وليّ العهد الغالي إلى القصر، بصحبة الوالي. وفي قاعة القصر الكبرى، استفهم الوالي من عباس عن مدّة إقامته في المدينة، قبل مواصلة طريقه إلى الأماكن المقدسة، فأجاب: - أما أنا فسأواصل السفر إلى جبل شُمَّر، لإنجاز مهمتي إن شاء الله... وأما المحمل فعليه استئناف السفر إلى مكة، بدءًا من الغد. لم يجرؤ الوالي إطلاقًا على سؤال الأمير عن طبيعة مهمته، علمًا أنه توقعها، لكثرة ما قام الأمير، المعروف بشغفه بالجياد، بها في الماضي. استجمع الشجاعة ليسأل بحذر: - كم يلزمك من الجنود ليرافقوك في هذه الرحلة؟ - هيئ لي خمسة فرسان جيدين! وتكتَّم على الأمر. فالإكثار من المرافقين يهدّد بلفت الانتباه... وبالمناسبة، هل الوضع آمن، في الحجاز، هذه الأيام؟ - لم أتلقَّ تقارير بأدنى إخلال بالأمن منذ زمن بعيد... ما عدا بعض أعمال التخريب التي لا تكاد تُذكر. سارع الوالي إلى الاقتراح: - أقترح أن يرافقك الكولونيل باقر بك... هو جندي شجاع، وسبق أن جاب شبه الجزيرة العربية، وسائر المنطقة مرارًا، أثناء القيام بدراساته الجغرافية. سيقوم مقام دليل لك! وافق الأمير بهزة رأس، ونظر إلى حافظ أسراره الذي يرشف الشاي، قائلًا: - لنسرع يا علي! نحن نحتاج إلى أن نتقدَّم موكب المحمل، لنتمكن من اللحاق به في الوقت المناسب. ترعرع عباس وسكرتيره معًا في المدرسة، ونشأت بينهما صداقة حميمة جدًّا، لذا أحلَّه عباس من الاحترام الذي يدين به المرؤوس لسيّده. هكذا، أجاب مناديًا إياه باسمه، من دون إرفاقه بأي من ألقاب التوقير والإجلال: - مفهوم! عباس. أثار الجواب الخالي من الرسميات دهشة الوالي الذي بدأ يكتشف عمق الروابط بينهما." من رواية: إنها غلطة فلوبير