وصف الكتاب:
لم نعلم أحدًا من العلماء والفلاسفة قبل ابن خلدون أفرد بالتأليف علم طبيعة العمران وما يسمى اليوم بعلم الاجتماع، برغم أن هذا العلم لم يكن من الأسرار الخفية ولا من المباحث التي لا تجول فيها أفكار الحكماء. وقد ثبت أن الفلاسفة قبل ابن خلدون لحظوا هذا العلم وأشاروا إليه في تضاعيف مباحثهم، ولكنهم لم يبلغوا فيه شيئًا من الإحاطة التي بلغها ابن خلدون، ولا استقصوا فيه ذلك الاستقصاء الذي جعله في هذا الموضوع نسيج وحده، حتى ألقي إليه فيه بمقاليد الرئاسة، فهو واضع علم الاجتماع بالإجماع، وهو الذي لم يدع منه غُفلًا غير معلم، ولا وشيًا غير منمنم. قال البارون المستشرق «كارادوفو Carra de Vaux» صاحب كتاب «مفكري الإسلام» في الجزء الأول من تأليفه هذا: أنجبت أفريقيا الإسلامية اجتماعيًّا من الطبقة الأولى في شخص ابن خلدون الذي لم يُعرف من قبله علم أوتي تصورًا عن فلسفة التاريخ أصح ولا أجلى من تصوره، فإن أحوال الأمم الروحية والأسباب الطارئة عليها القاضية بتغييرها، وكيفية تأسيس الدول، وما تدخل فيه من الأطوار وتنوع المدنيات وعوامل نموها أو تقلصها، كل ذلك كان من المباحث التي خاض فيها إلى أقصى ما يمكن الخوض فيه، وذلك في مقدمته المشهورة “Prolegomenes” ولم نجد في أوروبا — إلا في القرن الثامن عشر للمسيح — أناسًا حاولوا أن يستخرجوا أسرار التاريخ استخراجه بعد أن كانت أقفالًا مستحجبة تعذر فتحها، فكان ابن خلدون في العقل والإدراك من فضيلة «مونتسكيو Montesquien» أو الأب «مابلى Mably» وهو من دون شك الجد الأعلى لعلمائنا الاجتماعيين المحدثين مثل «تارد Tarde» أو المستشرق «غوبينو Gobinean» ا.هـ. ثم ذكر صاحب كتاب «مفكري الإسلام» شيئًا عن حياة ابن خلدون وقال إن الأب «بورغيس Bargues» قدح في ابن خلدون وأنكر عليه الثبات على وتيرة واحدة، وزعم أن قاعدته في السياسة كانت التحول من حزب إلى حزب آخر بحسب ما كانت تقضي عليه به مصلحته الشخصية، أو اتقاؤه للضرر، ونسي بورغيس ما كانت عليه أحوال تلك الحقبة المضطربة الذي يجب تمهيد عذر من يلجأ فيها إلى ما لجأ إليه ابن خلدون. على أن بورغيس نفسه يسمي ابن خلدون «بالمؤرخ الفيلسوف» برغم ما زنه به من عدم الثبات. ثم ذكر كارادوفو كيف ذهب فيلسوفنا المشار إليه سفيرًا عن سلطان غرناطة إلى «بطرة» الغاشم سلطان قشتالة في بعض المهمات، وكيف حاول هذا الطاغية إقناعه بالبقاء عنده ولم يحصل من ذلك على طائل، وذكر مجيئه إلى مصر وولايته للقضاء ثم صحبته لسلطان مصر في خروجه إلى الشام لمحاربة تيمور لنك، ثم ما جرى بينه وبين تيمور لنك من الأحاديث وكيف أقنعه بالإذن له في الرجوع إلى مصر — توفي سنة 808 وفق 1406 عن أربع وسبعين سنة. وقال: إنه كان رجلًا سريًا بهي الطلعة، حسن الصورة والشورة، خبيرًا بالسياسة، عارفًا بأخلاق الملوك.