وصف الكتاب:
يشكل مجال الانحراف والجريمة حيزا هاما من ميادين المعرفة المرتبطة بالسياسة الجنائية لأي مجتمع من المجتمعات، وكما يشكل أرضية خصبة للنظر في واقع شريحة هامة من الأشخاص الذين أثرت فيهم عوامل السلوك ومحركاته، سواء كانت داخلية أو خارجية، فتكونت لديهم تجارب سلبية جعلت منهم نماذج لا سوية، مما أودى بظاهرة كالانحراف إلى أن تكون ظاهرة اجتماعية واقعة، لها من الخصوصيات ما يميزها كظاهرة، وكما “يقال أن الجريمة ما كانت لتوجد، لو كان الإنسان يعيش بمفرده، أي لو لم يكن للحياة الاجتماعية وجود، ولم يكن للمجتمع كينونة وبقاء، وهذا ما يجعل من الجريمة ظاهرة اجتماعية، فالجريمة مفهوم اجتماعي قبل أن يكون مفهوما فقهيا تتناوله الشريعة والقانون، بمعنى أنها فعل يقع من فاعل يفيد منه بشكل من الأشكال، على مفعول به يتضرر منه بأية صورة، فيكون له ولذويه رد معين على الفعل الذي فعل والضرر الذي وقع، ورد الفعل هذا هو ما يعرف اجتماعيا وشرعا وقانونا بالعقوبة، وهكذا تكون الجريمة والعقوبة فعلا ورد فعل”([1]). هذا وقد أشار الأخصائيون بأن الانحراف بشكل عام والجريمة بشكل خاص من الموضوعات التي احتلت موقعا هاما في دراسة الشخصية الإنسانية، وفي هذا يقول فينك “إن ميدان الجريمة والانحراف يعتبر من أهم الميادين التي تتعامل معها الخدمة الاجتماعية، غير أنه ينبغي توفر التصورات التي تزيد من وضوح الظاهرة حتى يسهل عمل الاختصاصي أيا كان مجاله (الاجتماعي، النفسي، التربوي، الصحي، المهني،…)([2]). إن تحليل ظاهرة الانحراف أو الجريمة وفهمها، أو محاولة معرفة لماذا يرتكب الشخص فعلا لا سويا، أو معاديا للمجتمع، يتضمن تفسير كيفية تكوين هذه الظاهرة ذاتها، وهنا نكون أمام تفسيرات لبعض النظريات القائمة على بعض الفرضيات، والمعطيات وربما بعض الحقائق، هذا ما دفع بالكثير من الدارسين إلى فهم هذه الظاهرة الاجتماعية، والوقوف على مسبباتها، فركزوا على الطبقات الدنيا، التي لازالت تنال الاهتمام الأول للباحثين، في موضوع الانحراف، الذين أثبتوا أن الشخص المنحرف يتصرف وفقا لظروفه الاجتماعية الخارجية، ودوافعه النفسية الداخلية، وهي الظروف التي تسهم في تكوين انحرافه الاجتماعي، إن حماية الفرد من خطر الجريمة والانحراف دعا بالمجتمع إلى اتخاذ جملة من الإجراءات التي توفي بأغراض السياسة الجنائية المعاصرة، بإتباع خطوات معينة، ابتداء من محاكمة الشخص أمام القضاء، حيث يخضع لقواعد ضبط خاصة، ليتم توجيهه وإرشاده في حالة براءته، أو إيداعه في مؤسسة إعادة التربية إذا تمت إدانته، بغية التكفل به والعمل على إعادة تأهيله، ومن ثم إدماجه في المجتمع من جديد بشكل طبيعي. كشفت الدراسات أن العقاب يمثل شكل وصورة لرد الفعل الاجتماعي إزاء الانحراف حسب ثقافة المجتمع، ويرتبط أو يتفاعل مع مجموعة من المتغيرات السوسيو-ثقافية كالمعتقدات والقيم ونظم الضبط الاجتماعي والتقييم الاجتماعي والثقافة العامة أو العموميات الثقافية والثقافات الفرعية، كما يرتبط بنظم التربية والأسرة والسياسة وعادات المجتمع وتقاليده([3])، لذلك اصبح لزاما على المشتغلين بالدراسات العقابية ان يوجهوا ابحاثهم نحو اختيار الجزاء المناسب لمواجهة سلوك ما غير مشروع، وهذا يستدعي بيان قيمة المصلحة المحمية، وما قد يصيبها من ضرر([4]). وقد توصلت أغلب الابحاث في مختلف المجالات العلمية أن العقوبة كرد فعل تعد من الضرورات الاجتماعية التي لابد منها لبقاء واستمرار التنظيم الاجتماعي، والحفاظ على مقوماته والأسس التي يسير عليها، حيث يستمد المجتمع قوته من قوة الضبط الاجتماعي فيه، ولكن وعلى الرغم من تعدد ردود الفعل الاجتماعية إزاء الانحراف بتعدد المجتمعات وعلى الرغم من تعدد مفهوم الانحراف ذاته والاختلاف الواضح بين مكونات العقل الجمعي حول ما يمثل سلوكا أو فعلا انحرافيا وما يمثل فعلا سويا، إلا أنه لا يوجد مجتمع بدون نظام عقابي، وقد انطلق علماء الاجتماع يناقشون أسباب تنوع رد الفعل العقابي الاجتماعي إزاء الانحراف، وارتباط التنوع بالاختلافات في المعتقدات والثقافات والمستويات الحضارية التكنولوجية والظروف البيئية ومحورات البناء القانوني داخل المجتمعات، إلى جانب ارتباطه بمحدرات التاريخ الاجتماعي لها… الخ([5]). ([1]) سامية حسن الساعاتي، الجريمة والمجتمع، دار النهضة العربية، بيروت، 1983، ص51. ([2]) جلال الدين عبد الخالق، الجريمة والانحراف: الحدود والمعالجة، دار المعرفة الجامعية، الأزاريطة، 1999، ص 46. ([3]) نبيل السمالوطي، علم اجتماع العقاب، الجزء الأول، دار الشروق، جدة، 1983، ص 11. ([4]) طلال ابو عفيفة، اصول علمي الاجرام والعقاب، دار الجندي، القدس، 2013، ص 443. ([5]) نبيل السمالوطي، علم اجتماع العقاب، الجزء الأول، المرجع السابق، ص 12.