وصف الكتاب:
تهتم سوسيولوجية الصحفيين كفرع في علم الاجتماع الإعلامي بدراسة الخصائص الاجتماعية، والثقافية والسمات المهنية للقائمين بالإعلام والاتصال على مستوى وسائل الإعلام. وتفرض دراسة الصحفيين من منظور سوسيولوجي ضرورة الاعتماد على مقاربات مختلفة لفهم العوامل التي تؤثر على العمل الصحفي، وتطوراته، وتتبع السياقات والمسارات التي ساهمت في توجيه أدواره. ففي الواقع، لا يمكن فصل الصحافة وإن تعددت أشكالها عن الأطر الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية التي تنخرط فيها، وعليه، فإن سوسيولوجية الصحفيين ترفض التوصيف الذي يكتفي باعتبار الصحفيين “منتجين للرسائل الاتصالية والإعلامية”، ومجرد فئة تخصص كل وقتها لتقديم الأخبار فحسب، بعيدا عن تأثير السياقات التاريخية والأوضاع الاقتصادية، والطبقية، والمرجعيات الثقافية والاجتماعية للمجتمع التي يعيش فيها الصحفي. كما أن، تعدد المواقف والسمات الثقافية والاجتماعية للصحفيين تكشف عن تباين مستويات انخراطهم الاجتماعي ضمن حقول وقطاعات المجتمع، كما أنها تعبّر عن الدور المؤثر للمصالح والحسابات والمصالح الشخصية والولاءات التي تساهم في رسم المشهد الإعلامي، والسياسي والثقافي. وترى الباحثة الفرنسية “جوديث لازار” (Judith Lazar)، أن ظهور هذا التخصص له علاقة بظهور الدراسات في مجال سوسيولوجية العمل، ما يعني أن تخصص سوسيولوجية الإعلام هو حديث النشأة، حيث ظهر مع تطور الدراسات في مجال الإعلام والاتصال، خاصة مع ظهور تخصص علم الاجتماع الإعلامي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية في الولايات المتحدة الأمريكية وبعدها في أروبا. وهذا التطور في الدراسات والاهتمامات العلمية نجده أيضا في علم الاجتماع الذي تفرعت منه عدة تخصصات مثل “سوسيولوجية المهن”، و”سوسيولوجية المثقفين، أو سوسيولوجية النخبة المثقفة”، حيث تعتبر كتابات الباحثيين الإيطالي “أنطونيو غرامشي” (Antonio Gramschi)، والأمريكي “نوام شومسكي” (Noam Chmosky) والفرنسي “بيير بورديو” (Pierre Bourdieu)، من أهم ما كتب في مجال “سوسيولوجية المثقفين”. ظهرت سوسيولوجية المهن كمجال بحثي مدعم بمراجع ذات قيمة في نهاية سنوات 1920 في بريطانيا، وعرفت تطورا خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية أين عرف البحث في هذا المجال منذ سنوات 1930، تطورات سريعة ونقاشات نظرية كثيرة ساهمت فيها المنافسة بين المقاربة الوظيفية ومقاربة التفاعلات الخاصة بالمهن، ونماذج نظرية أخرى، كما ظهرت محاولات حديثة من طرف الباحثين في السنوات الأخيرة لإدماج مقاربات سوسيولوجية بمقاربات اقتصادية لدراسة المهن من الناحية السوسيولوجية Pierre Michel MENGER, 2003, p1)). وقد ركز التيار الفكري الوظيفي على المهن، حيث حظي باهتمام خاص واكتسب مكانة متميزة في أقسام علم الاجتماع في الجامعات الأمريكية في الفترة ما بين 1920 إلى غاية 1960، وقد عرض هذا التيار نظرته حول المجتمعات التي ترتكز على النظام والانسجام اللذان يميزان الجماعات التي تشكل هذه المجتمعات، وذلك بترابطها من خلال علاقات وظيفية ( Florent CHAMPAGNE, 2009, pp 16-17) نتطرق في هذا الكتاب إلى تطور مفهوم الصحفي من الناحية السوسيولوجية وإلى تطور الدراسات التي اهتمت بالعوامل المؤثرة على الصحفيين، حيث سيتم في البداية بعرض تطور المفهوم السوسيولوجي ودور الصحفي في المجتمع منذ القديم إلى غاية الوقت الراهن، ويكتسي هذا العنصر أهمية بالغة بالنسبة لنا، حيث لا يمكن الحديث وتحليل الممارسة الصحفية دون فهم الهوية الاجتماعية للصحفيين، حيث نلاحظ أن هذه الأخيرة، وبالرغم من التطور الذي عرفته الممارسة الإعلامية إلا أنها تبقى غامضة. كما نركز في هذا الكتب أيضا على مسار تطور اهتمامات الباحثين بالقائمين بالاتصال والصحفيين منذ البدايات الأولى، حيث يمكن تقسيم هذا المسار إلى مراحل مختلفة مع مراعاة السياق التاريخي الذي تطورت فيه الدراسات والمقاربات النظرية المفسرة لعمل القائمين بالاتصال وبيئة العمل والممارسة الصحفية. حيث تبرز الأدبيات المتعلقة بسوسيولجية وبيئة العمل الصحفي أن هناك تطورا واضحا في نماذج تحليل وتفسير العوامل المؤثرة في العمل الصحفي. ففي مرحلة ما قبل سنوات الخمسينيات وبداياتها، ركزت الدراسات الأولى على العوامل الشخصية والذاتية للقائمين بالاتصال وتأثيرها في الإنتاج والمضمون الإعلامي، بينما برز في سنوات الستينيات تيار علمي آخر ركز على تأثير العوامل التنظيمية والبيروقراطية والروتينية والسياسة الإعلامية على القائمين بالاتصال. وفي سنوات السبعينيات والثمانينات، ركز الباحثون على ملكية وسائل الإعلام وتأثير الإيديولوجية وعلاقة الصحفيين بمصادر المعلومات والأخبار لتفسير العمل الصحفي وبيئته، أما في الفترة الأخيرة والتي تبدأ حسب اعتقاد الباحث، مع نهاية الثمانينات ولا تزال مستمرة إلى الوقت الحالي، حيث استفاد الباحثون من التراكم المعرفي المحقق بفضل البحوث والدراسات السابقة. 1- نبذة حول تطور المفهوم السوسيولوجي للصحفي عرفت مهنة الصحافة عبر مختلف المراحل الزمنية أحكاما مسبقة، وما هو متعارف عليه اليوم حول مهنة الصحفي هو أنه ذلك الشخص الذي يبحث وينتقي المعلومات والأخبار، كما يتأكد منها ويقوم بصياغتها في أشكال متنوعة، وتحليلها والتعليق عليها لحساب وسيلة إعلامية ما وذلك باتجاه جمهور معين Daniel JUNQUA, 2000, p 277) .) وقد ظلت الصحافة لوقت طويل غير معترف بها كمهنة بالمعنى الحقيقي للمهنة. ففي قاموس “إدوارد شاتون” مثلا والمعنون “مالك الصحافة والعارف الجيد للوسط” الصادر في 1851 صنف الصحفي في ركن “رجل الأدب”، وفي ذات القاموس الصادر في عام 1881 بعنوان: “الصحفي… هل هو مهنة”؟، لم يتم الاعتراف بالصحافة كمهنة. فما يميز المهنة هو وجوب التحضير لها، فلا يمكن مزاولتها إلا بعد الانتهاء من التحضير لذلك، حيث يمكن أن يكون الشخص طبيبا أو محاميا حتى وإن لم يكن لديه زبائن. لكن يكون الشخص صحفيا فقط عندما يكتب في الصحافة، كما يمكن أن تنزع منه هذه الصفة بمجرد توقفه عن الكتابة في الصحافة، فالصحافة لا تشترط تكوينا خاصا، ولا شهادة في التخصص، بمعنى أنها ليست مهنة بالمعنى المألوف للمهنة( Camille LAVILLE et Frédéric LAMBERT, 2008, p145) . والمهنة مصطلح معروف وكثير التداول والاستعمال، لكنه بالمقابل صعب ومتعدد المعاني، حيث تختلف معانيه إلى حد لم يتم الاتفاق على أن الصحافة مهنة بالمفهوم السوسيولوجي للمهنة، فعلماء الاجتماع يتكلمون عما يسمونه “مجموعة مهنية Patrick CHAMPAGNE et autres, 2009, p 47) (. ويمكن توضيح ثلاث نقاط في هذا الشأن: أولا، إن مصطلحي “مهنة” و”حرفة” يستعملان في الفرنسية للدلالة على نفس المعنى، ولو أن الأول له بعد أشمل، أما مصطلح “حرفة”، يخصص لتحديد مختلف المعارف في مهنة الصحافة. ثانيا، هناك اختلاف في اللغة الانجليزية بين “شغل” (occupation) والذي يعني أي عمل بسيط يشغله الفرد من أجل الحصول على دخل يضمن له العيش، و”مهنة” والتي تعني مجموعة مهنية منظمة لها مكانة اجتماعية مرموقة عالية كالمهن الحرة” والتي تضمن تنظيمها الداخلي. ثالثا، هناك مقاربتين سوسيولوجيتين؛ الأولى تتمثل هي المقاربة الوظيفية والي تستند على الاختلافات التي نجدها في اللغة الانجليزية من تحديد المعايير التي يجب أن تتوفر في مجموعة مهنية معينة لكي يصلح أن نطلق عليها صفة مهنة، تتمثل هذه الشروط في : التخصص والشهادة، المواثيق، مجلس العمادة، حدود المهنة). والثانية، هي المقاربة التفاعلية التي تدرس مسار تداخل القطاعات (صحافيون متخصصون في قسم معين أو وظيفة تقنية مثلا) لهم علاقة ببعضهم البعض ويعترفون بانتمائهم لمجال يسمى الصحافة ( Patrick CHAMPAGNE et autres, 2009, p p 478, 479). وقد طرح تطور الصحافة مسألة “مهنة الصحفي”، وهذا في شقين؛ الشق الأول متعلق بالمعارف التي يتمتع بها الصحفي، أما الشق الثاني فهو مرتبط بضرورة اعتبار الصحافة كمهنة منظمة ومقننة. لقد أفرزت السوسيولوجية الوظيفية أدبيات كثيرة حول فكرة المهنة، والتي وضعت أربع صفات تتميز بها المهنة، حيث تشترط هذه الأخيرة شروطا رسمية لممارستها (شهادات)، وإمكانية الرقابة على النشاط الذي تغطيه، كما هو الحال لدى التنظيمات الخاصة بالمحامين والأطباء، إضافة إلى كونها لديها ثقافة وشرف يجب احترامهما باستعمال وسائل تمنحها لها الدولة (منتدى المهنيين) (Eric NEVEU, 2009, p 18). وأخيرا، فهي تضم مجموعة حقيقية من الأعضاء المنتمين إليها، ويخصص هؤلاء لمهنتهم أهم طاقتهم وجهدهم ووقتهم، كما يتميزون بالإدراك والوعي بمصالحهم المشتركة. إذ تكفي محاولة تطبيق هذه الشروط المذكورة سالفا على الصحافة للكشف عن وجود غموض بخصوص الصحافة. وبالرغم من وجود قانون أساسي خاص بالصحفي في الكثير من البلدان في العالم، إلا أن منح بطاقة الصحفي لا يستند قانونا لا على المستوى التكويني ولا على الحصول على شهادة في مجال الصحافة. لكن هذا لا يعني بأن الصحفيين لا يتقاسمون حقيقة مجموعة من المؤهلات (Eric NEVEU, 2009, p 18). إذا يمكن القول “أن الصحافة ليست مهنة بالمفهوم السوسيولوجي الحقيقي”، هذا ما إذا ما تمت مقارنتها بمهن حرة مثل مهنة التطبيب ومهنة المحاماة اللتان تتميزان بوجود شروط واضحة من أجل ممارستها مثل المعارف المعترف بها والخضوع لمشوار دراسي محدد، ومراقبة من طرف الزملاء وأخلاقيات مهنية تؤطرها (Rémy RIEFFEL, 2005, p116). ففي السوسيولوجيا، كلمة مهنة تطلق على بعض المهن والوظائف الخاصة التي استطاعت انتزاع مكانة اجتماعية وقانونية، وذات قانون خاص ينظمها ويؤطرها، وذلك لأنها اجتماعية، وتقدم خدمة ومنفعة للمجتمع، ومن هذه المهن نجد مهنة المحاماة والطب والمهن الحرة الكبرى التي تتمتع بمميزات كلاسيكية تصنفها كمهن منظمة ومؤطرة، ومن تلك الخصائص نجد أن أصحابها يمتلكون معرفة معترف بها اكتسبوها من خلال التكوين، ولهم شهادة خاصة التي تعتبر شرطا رئيسيا في التوظيف، كما تفرض مراقبة على عملية التوظيف، كما أن لهذه المهن قانون أساسي، أو ميثاق متعلق بالمهنة وأخلاقياتها( Jérôme BOURDON, 2009, p126). هل يعني إذا بأن الصحافة لا تدخل في المجال السوسيولوجي للمهن المنظمة والمؤطرة؟ أين يكمن المشكل؟ وللإجابة على التساؤل يجب البحث في مقترحات التحليل الوظيفي للمهنة. صحيح أنه ينبغي أن تكون المهنة منظمة، وأن الصحافة ستكون أحسن حالا إذا كان محترفوها يتخرجون من مدارس متخصصة، وإذا كانت قادرة على مراقبة أعضائها(