وصف الكتاب:
حاولت نظرية القراءة الحديثة والمعاصرة أن تجيب على الأسئلة الجوهرية التي أثارتها الواقعية والمثالية في الفلسفة. نشأ عن الأولى مفهوم الالتزام الأكثر توصيفا للبعد الواقعي. وعن الثانية تعالت صيحات الإعلاء من شأن المتعة الأدبية.ثمّ لمّا وصلت الفلسفتان لمأزق النهايات استعانت نظرية القراءة بالروافد الفلسفية الحاضنة للضدين معا.فكانت الفينومينولوجيا؛ فلسفة الظواهر؛التي قدّست الذّات والموضوع معا في بعد تواصلي قمين أن يرتقي بالقراءة إلى اكتشاف عوالم رمادية حجبها الصراع الفلسفي والفكري .وقد أعطت الهرمينوطيقا من حصادها النظري للقراءة الظاهراتية ما أهلّها لاجتراح آليات المقاربة النصية التي لاتتنكّر لأصولها. والحقيقة إنّ وقوع الاختيار على هذا الموضوع دون غيره، إنّما جاء نتيجة سببين اثنين هما: ارتباطه -من جهة- براهن الممارسة النقدية المعاصرة ؛ وأعني بذلك “نظرية التلقي” ومقولاتها. علاقته -من جهة أخرى- بالنظرية السردية، رؤية وممارسة. لقد قاد هذا الارتباط إلى الوقوع فيما يشبه العجز الذي كاد أن يفضي إلى التراجع، خاصة وأنّ “الفراغ” كمصطلح خالٍ من أيّ حَمولة معرفية، لا يوحي بالغرابة لتردده كصورة بسيطة لتلك البياضات، ونقاط الحذف. غير أنّه كمصطلح نقدي مهجّر من الفلسفة، يطرح إشكالاً عويصاً إذ لا يوجد حتّى في مؤلفات “إيزر” (W. Iser)، حديث دقيق ومستفيض عنه، ناهيك عن أنّ النظرية السردية، هي الأخرى -بسبب اهتمامها الكبير بالخطاب- لا نجد فيها ما يشير إلى المصطلح، اللّهم إلاّ تلك المرادفات التي يلتقي توظيفها بمفهوم الفراغ ؛ وأعني بها “الثغرات أو الفجوات”. ولهذا بات لزاما علينا لتحدي هذا الجفاف النظري، أن نقوم بما يشبه عمل “الأركيولوجي” (Archéologue)، لا يهمل حفرية ولو كانت دقيقة، من أجل تركيب رؤية متكاملة. وبالفعل فقد أعانتنا الإطلالتان؛ التاريخية (المدخل) والفلسفية (الفصل الأوّل)، في بناء تصوّر واضح المعالم عن الفراغ. ثمّ عندما لم يبق أمامنا إلاّ إثبات تشكّله في النص السردي، وجّهتنا كتابات “أمبرتو إيكو” (U. Ico). ودفعتنا رؤيته للنصّ على أنه آلة لغوية كسولة تقوم على اقتصاد المعنى باستعمال الفراغ كإستراتيجية، للمضي قدماً. إنّ جدّة هذا الموضوع، لم تثن عزيمتنا عن البحث -ما استطعنا-، متسلحين في ذلك بمنهج يعتمد -في الأساس- الوصف والمقارنة، كما هو الحال في الفصل الأوّل والثاني، ثمّ الوصف والتحليل في الفصل الثالث، والذي تركت جمالية التلقي بصمات ظاهرة عليه ؛ من خلال الابتعاد عن حشد تلك الترسانة المعهودة من المصطلحات في الكثير من الدراسات النقدية المعاصرة. ومهما يكن من أمر، فقد شكّل “الفراغ” مقولة تجاذبتها حقول معرفية كثيرة، كما اتخذت -في أحايين عديدة- رحماً لنظريات فلسفية وعلمية قديمة وحديثة، ومن ذلك ما انتهت إليه الهندسة في تطورها، إلى اعتماد بعض البديهيات التي كوّنت عقيدة العلماء إلى ما قبل عصر التنوير وبعده. ومن ثمّ، فقد سعينا في هذا البحث إلى تبئير هذه المقولة، من خلال تتبع محطات ارتباطها الفكري بالخطاب النقدي المعاصر، والبحث في الوضع الذي أعيد إنتاج الفراغ فيه كإجراء نقدي. لقد كانت نيتنا -في البداية- تتجه إلى البحث في “الفراغ” كبنية (Structure)، غير أنّ التّماس مع البنية يفرض احتكاكاً حاداً مع مقولتي الغياب/الحضور البنيويتين أصلاً، كما ينأى بالموضوع عن التصور المرتبط أساساً بنظرية التلقي التي تشكل مقولاتها روح هذا البحث. ولهذا، فقد حاولنا في الفصل الأوّل -وبعد أن تتبعنا الفراغ في التفكير الفلسفي والعلمي- أن ننتزع من الخطاب النقدي المعاصر توجّها إلى تـبني هذه المقولة ضمناً، كما هو الحال في اللسانيات والتفكيكية، أو تصريحاً كما في نظرية التلقي. لقد أظهرت آراء “د وسوسير” (F. De Saussure) اتجاهاً مبكّرا يهدف إلى بناء مفهوم جديد للنسق اللغوي، سرعان ما تبلور مع الاتجاهات البنيوية المختلفة، أين أصبح المعنى جزءًا لا يتجزّء من إستراتيجية تقصي الكاتب وتحتضن القارئ، ناهيك عن لا نهائية الدلالة التي نادت بها التفكيكية فجعلت من الدّال مراوغاً للمعنى باستمرار. منذ ظهورها ثمّ تبلورها كنظرية للقراءة، حاولت جماليات التلقي الأوربية “مدرسة كونستانس” (Constance)، و”الأنجلوسكسونية” ممثلة في “ستانلي فيش” (S. Fisch)، أن تنأى بنفسها عن الحديث النظري الفضفاض، وذلك ببناء جهاز قرائي قادر على ملامسة النص، فاستلهم “ياوس” (H. R. Yauss) من الهرمينوطيقا (Herméneutique) مفهومي “أفق الانتظار” (Horizon d’attente) و”المسافة الجمالية” (Distance esthétique). غير أنّ مفاهيمه اعتنت بدراسة التلقي التاريخي ؛ أي كيف يخلق النص في زمن ما شروط تلقيه. أمّا “إيزر” فإليه يعود -بعد ياوس- منح النظرية بعداً أكثر جمالية، وذلك من خلال بناء استراتيجية تنـزع أكثر نحو الممارسة، منها إلى التنظير، خالقة ضرباً من التوازن بين النص والقارئ باعتبارهما شريكي فعل التواصل ؛ المسمّى القراءة. ومن خلال استلهامه -هو الآخر- لبعض مقولات الفلسفة الظواهرية (Phénoménologie) استطاع “إيزر” أن يصل إلى نتيجة هامة فيما يخص مشروعه التأويلي ؛ وهي أنه من الأولى أثناء قراءة أيّ نص، الاستماع لصوت القراءة نفسها كتجربة وخبرة جمالية، وليس تسليط سيف القراءة كنظرية جاهزة على رقبة النص، وبالتالي إكراهه على قبول المعنى المعدّ له سلفا. لقد منح هذا التصور للنص قدرة تحفيز القارئ، ودفعه للمشاركة من خلال عقد تواصلي تحدّده “المناطق الفارغة” فيه، والتي تجعل القارئ، يتعرض أثناء القراءة إلى ما يسمّى بتعديل الآفاق المستمر والناتج عن تحولات جوهرية في “وجهة النظر الجوالة”. كلّ ذلك من أجل بناء تأويل متسق نابع -في الأساس- من نزوع الإنسان كما تقول مدرسة “الجشطالت” إلى رؤية الأشكال مكتملة ومتناسقة. أمّا ربط “الفراغ” كمقولة نقدية بالنص السردي (الفصل الثالث)، فلذلك اعتبارات عديدة نذكر منها: قدرة النّص السردي على بناء قواعد الاشتباك مع القارئ من خلال فعل الحكي، الذي يملك في أحشائه إمكانية ليس فقط تكثيف الدلالة كما في الشعر، بل العمل على اقتصادها باستعمال بعض التقنيات، كالحذف والوصف، الاستباق والاسترجاع. للنص السردي، علاوة على البعد الكتابي، بعداً وظيفيا ؛ يتمثل في انفتاحه على طروحات متعلقة بمستويات سوسيولوجية أو تاريخية. ممّا يجعله أكثر احتكاكاً بالقارئ، وذلك من خلال دفعه إلى تبني طروحات جديدة، عن طريق سلبه -أحيانا كثيرة- لقناعاته. ولهذا توجّهنا إلى تبني خيار النص وليس الخطاب، لما يمنحه النص ككون دلالي من إمكانية القراءة المنفتحة. إنّنا في بحثنا هذا لا نقدّم “سيّدة المقام” كنصّ، قربانا لسلطة النظريات السردية بقدر ما نحاول جهدنا أن نستفيد من بعض آلياتها، فيما يتعلق بتتبع الفراغ -وهي نادرة-. ولهذا سيلاحظ القارئ أنّنا تشجعنا في منح بعض هذه الآليات السردية -خاصة عند جنيت(G.Gennette)- مصطلح الفراغ، بعد أن ألفينا المصطلح الممنوح لها، يكاد يكون الفراغ نفسه الذي نتصور ونبحث عن تجلياته. لقد جاء الفصل الثالث تتويجا لتساؤل هو: كيف يحفّز النص السردي قارءه؟ ولهذا فإنّ قراءتنا للنّص “سيّدة المقام” لا تتهرّب من صرامة النظريات السردية التي ظلّت -في نظرنا- مهتمة بالخطاب تصف “صيغه” و”جهاته”، إلاّ لتتقيد باجتهادات الكثير من الباحثين فيها الداعية للانتقال إلى ما هو أبعد من قراءة المظهر النحوي والتركيبي، والتطلع إلى ما وراء حدود النص كنسق لغوي. وهي رؤية -كما سنرى- لها من المشروعية والإغراء ما يجعلها أهلاً للبحث. ثمّ إنّنا إذ نقدّم هذا العمل فإنّنا نشفعه بالتقصير ولا شك، فليس في وسع امرئ أن يقدّم اليوم انجازاً، إلاّ رأى في غده منه النّقصان. فالحياة في “النقص المتجدّد وليس في الكمال المتوهّم”. ومع ذلك ففي كلّ مراحل البحث المضنية والشاقة، وجدنا أنفسنا محاطين بعناية الكثير من الأساتذة والأصدقـاء، الذين أخلصوا النصـح والتوجيه،فلكلّ أولئك أتوجّه بالشكر والمحبة والتقدير. جلال عبد القادر الجزائر 28/12/2018