وصف الكتاب:
شهدت الدراسات الأدبية واللغوية في الفترة الأخيرة تطورا ملحوظا، شأنها في ذلك شأن التغيرات في مجالات الإقتصاد والإجتماع وغيرها من المجالات الأخرى، بل تعدتها لكونها تحتاج إلى اللغة التي تعبر بها عن كثير من اصطلاحاتها، ومن ثم يمكن اعتبار اللغة ظاهرة إنسانية. ونظرا لخطورة الجانب اللغوي في تعميق المفاهيم وإحداث التواصل، عكف كثير من العلماء على دراستها بالبحث والكشف عن غوامضها، ومنثمّ الإحاطة بالنص وإيجاد نظرية قابلة للتطبيق على مستوى ما فوق الجملة. إن التطور الحاصل في ميدان اللّسانيات، وانفتاحها على كثير من المباحث والمعارف المختلفة، أتاح لها اكتساب العمق في التحليل، حيث شهد النصف الثاني من القرن العشرين ثورة لسانية متميزة تمثلت في ظهور لسانيات النص، والتي بدورها مكنت من الإستفادة من معطياتها المعرفية وجهازها المصطلحي، سعيا إلى بناء نظرية لسانية تدرج في التحليل مجموعة أجزاء مكونة للنظام اللساني، والتي تسهم بتناسقها وانسجامها في بناء المعنى وإنتاجه. لا فائدة كبيرة من الاستعراض المفصل لجهود العرب القدامى في مجال الأسلوب والبلاغة، ويكفي أنهم أداروا كلامهم في الأسلوب والبلاغة حول (إعجاز القرآن)، وهو أعظم نص ٍخطابي أدبي عَرفته البشرية.ِ ثم تناولوا قضية الشعرية ِوتَوَصّلوا إلى ما عُرِف بعمود ِالشعر، ولم يكن هذا كُلَّه بعيدا عن نظرية الأنواع ِالأدبية التي تُعدُ من جوهر ِالشعرية أيضا، وبهذا فإنَّ نظريات الأسلوب ومظاهرها البلاغية ِنشأت في حُضن ِ البحث ِعن أدبية النص ومجالات اللُّغة، ولم تكن كما هي عند الغرب التي ارتبطت بميادين عملية بعيدة عن الجوانب ِ الفنية للأسلوب ِ الأدبي. وهي تعد من أحدث ما تمخضت عنه العلوم اللغوية في العصر الحديث، وهي التي تعنى بدراسة النص الأدبي، ووصف طريقة الصياغة من أجل استخراج أهم الخصائص التي تميزه بصفة خاصة، والعصر الذي تنتمي إليه بصفة عامة. ويعود مصطلح تحليل الخطاب إلى عدّة مفاهيم، تشمل مجالات واسعة ومتباينة، بالإضافة إلى أنّه حاز على اهتمام العديد من النّقاد، وصار محور التقاء دراسات مختلفة، مثل اللّسانيات الاجتماعية، واللّسانيات النّفسية، واللّسانيات الفلسفية واللّسانيات الإحصائية. وهي تغطي مجالات مختلفة من الأنشطة الإنسانية، هذه الأنشطة هي نقاط تماس بين علم اللّغة الاجتماعي، الذي يهتم ببيئة التفاعل الاجتماعي. وعلم اللّغة النّفسي الذي يركز على قضايا اللّغة والإدراك، وعلم اللّغة الفلسفي الذي يهتم بالعلاقات الدّلالية القائمة بين وحدات الكلام، وعلم اللّغة الإحصائي الذي يبحث في الجانب اللّغوي، عن طريق عمليات إحصائية بغية الوصول إلى جوانب عديدة في المعنى. إن القراءة تغدو لأن تكون أحد الركائز الأساسية التي يقوم عليها التأويل، فإن أي نص لا تكتمل ولادته ولا يتم تكوينه وخلقه إلا عن طريق القراءة التي تعطيه حياة جديدة، بوصفها مغامرة مفتوحة لتحقيق المتعة والقبض على الدلالة التي تعتبر بدورها حافزا يحقق التفاعل بين القارئ والنص، فالنص موات والقراءة تبعث فيه الحياة وتنقله من مجرد نص مكتوب إلى نص ذي دلالات ومعانمتنوعة ومخفية تستشير المتلقي لمجابهته ومواجهته من أجل التمكن منه، وهو بدوره يحاول تسلق معانيه ومعانقته للوصول إلى جمالياته. استطاع الدرس النقدي أن يتجاوز من خلال منهجية نقدية مقصودة أو متبناة- الدراسات النقدية التقليدية القائمة على المتابعات التاريخية لأدب كاتب أو شاعر، أو تناول نصه ضمن منطق لغوي بلاغي محض يتكئ على العبارة الشعرية وفق معيارية الدرس النقدي القديم. وأصبحت مجالات الدرس النقدي تطال جملة من المعطيات الفنية التي لم تكن من معايير النقد للنص الشعري، كالسردية الشعرية، والبنية الحوارية، والبنية الدرامية، والتناص، والرؤية والتشكيل والمؤلف والراوي، وتعدد الضمائر والأصوات، وما سوى ذلك من تقنيات ومصطلحات استعارتها القراءة النقدية الحديثة للشعر من حقول عديدة، وما سوى ذلك من فنون كانت وفق الرؤية الكلاسيكية منفصلة عن بعضها البعض. فجاءت الدراسات الحديثة لتمزج الأنواع مزجا، وتطلق على المنتج المتناول عبارة نص دون تفريق بين شعر ونثر. وقد شكلت القصيدة الحديثة والمعاصرة تميزا وتفردا وتفننا في بلورة ذاتها من أجل أخذ مكانتها وإيصال رسالتها، فاتخذت من التجديد، سواء على مستوى المضمون أم الشكل أم الأسلوب منهجا تسير عليه، لتحِّقق بذلك التواصل والتفاعل بين القارئ والنص.وقد ساهم ذلك في إعطاء الدراسة الأدبية أبعادا جمالية أكثر عمقا وفهما من خلال البحث عن مكامن الجمال في العمل الفني، تلك الوظيفة المشتركة بين كل من المبدع والقارئ من أجل إعطاء العمل الإبداعي دلالات ومعان عديدة ومولّدة. إن مجال الشعر هو الشعور، سواء أثار الشاعر هذا الشعور في تجربة ذاتية محضة كشف فيه عن جانب من جوانب النفس، أم نفذ من خلال تجربته الذاتية إلى مسائل الكون، أو مشكلة من مشكلات المجتمع تتراءى من ثنايا شعوره وإحساسه. ومن بين القضايا التي عالجها شعراؤنا قضية فلسطين التي احتلت مكانة مميزة في قلوب الملايين من العرب والمسلمين وأحرار العالم، ومن بينهم الشاعر محمود درويش، وهو ابن فلسطين الذي عايش القضية الفلسطينية واكتوى بعذابها. ويمثّل شعره الصراع السياسي والطبقي والاجتماعي أحسن تمثيل.ولما لشاعرنا من قدرة على توظيف الأساليب الشعرية التي تستحق الدراسة. ويحتل الشعر الفلسطيني مكانة هامة في مسيرة الشعر العربي المعاصر عموما، والمقاوم منه على وجه الخصوص، ولعل من أبرز عوامل الإبداع لدى شعر محمود درويش تعود إلى المأساة التي تعيشها فلسطين، حيث شكّلت ولا تزال تشكل المادة التي يستوحي منها الشعراء مواضيعهم الشعرية. بيد أن الكتابيتناول جمالية القراءة في شعر محمود درويش. هذا الذي أُثير حوله الكثير من الجدل. يشّكل إضافة جديدة إلى حقل الدراسات النقدية المعاصرة التي عنت بموروث الشاعر الراحل، خاصة وأن جلّ قصائده لم تدرس بعد أو على الأقل لم تنل حقها من الدراسة. ولذا فإن الهدف المرجو من هذاالكتاب يكمن في التنقيب عن البنى الجمالية التي استطاعت مناهج النقد المعاصرة أن تستنطقها وفق إجراءاتها التحليلية. وعليه تهدف الدراسة إلى مايلي: تحليل شعر الحداثة على مستويات اللغة والسير بها في اتجاه تصاعدي لاستئناس العوامل الفاعلة فيها. تحديد الدلالة المركزية، ومعرفة بؤرتها الفاعلة ومركز ثقلها، لالتقاط رسائلها وضبط علاقتها بالمبدع والمتلقي والمجتمع عبر اللغة وتقنيات التأثير. فهم الشعر النموذج لفهم الشاعر شخصية وثقافته من خلال فهم سياق المفردات، وقواعد تركيبها. من المعلوم أنه يقصد بالمستوى النحوي الجانب التركيبي لوحدات الجملة التي تشكل بدخولها في هذا التجانس نسقا اعتدنا على تسميته الوظائف النحوية. ولقد استوفت الدراسات اللغوية العربية الجملة حقها من هذه الناحية، وتمكنت من خلال النحو من ضبط قواعد ومعايير غاية في الدقة، تمكنت من خلالها من تفصيل الأدوار الوظيفية للكلمات. غير أنه وعلى مستوى النص، لم يكتب لهذه الدراسة تقف عليه، مما حذا بالدراسات المعاصرة إلى التنويه بضرورة الاهتمام بنحو النص، خاصة بعد ظهور جهود هاريس الذي قدم من خلال تحليل الخطاب “نماذج تجاوزت نحو الجملة“. يمكن تحديد نحو النص من وجهة نظر لسانيات النص على أساس أنه نقل لمستوى نحو الجملة إلى نحو النص، وليس يعني بالضرورة قولنا (نحو النص) ظاهرة الإعراب، وما يترتب عنها من توابع، ولكن يقصد من ذلك الجانب التركيبي الجمل في تعانقها وتشكيلها للمعنى، وهنا نذكر بفرضية البنية الكبرى (Macro Structure) التي ترى باحتواء كل نص جوهرا ظاهرا يمكن الوصول إليه، وتثبيته بعد ذلك من خلال البنيات الثانوية التي تتوزع عبر أنحائه. إذا كان المستوى التركيبي يعني التركيب النحوي والتركيب البلاغي، فإن الوقوف عند الأول منهما سيكون سريعا، لأن الملاحظ على المستوى النحوي أنه بعيد عن التعقيد والإنزياح. وقد ظلت الجملة تتحرك ضمن خصائص الجملة العربية المألوفة، جارية على مجراها، بسيطة، قليلة الحذف، لاتعقيد ولا التواء فيها. أما التركيب البلاغي، فهو تحولي استبدالي، فالدلالات تتحرك من الصور الأمامية إلى الخلفية لتتناغم مع السياق في وظيفته الكلية.ما ينبغي القيام بسلسلة من القراءات لإستكشاف خصائص النص الكلاميةالمتكررة، فبعض السمات لا تظهر إلا بعد قراءات عديدة، لخفائها ولغفلة الذهن عنها. كما لا بد أيضا من تحديد السمات التي تميز أسلوب الخطاب الشعري لدى محمود درويش وتصنيفها. تبنت الدراسة إجراءات وآليات المنهج التحليلي بصفته من المناهج التي تستطيع فك الكثير من الرموز والكلمات في النص الشعري، والكشف عن مواطن الجمال اللغويةوالفنيةوإظهارقيمتهاالأسلوبية،وبيانأثرهاعلىالمتلقيوأبعادهاوالغايةمنها،إضافةإلىالمنهجالإحصائيالذينعتقدأنهضروريلرصدكافةالظواهرالصوتيةوالصرفيةوالتركيبية .إذ كلها تمدّنا بالرؤية الكافية لسبر أغوار المتون الشعرية لمحمود درويش، والمعرفة بنسيجها النصي، وكل ما يتيح لنا رصد جملة الأبعاد الجمالية في إبداعه الشعري. هذا وقد اعتمدت الدراسة على مجموعة من المصادر والمراجع العربية والغربية والمترجمة، بالإضافة إلى جملة من المجلّات والدوريات. كمااستندت إلى مراجع نقدية حديثة أفاد البحث منها إفادة كبيرة.والعديد من المراجع الأخرى المختصة في التحليل اللغوي والأسلوبي، والتي كان لها عظيم الفائدة علينا. د. إيمان بن سعيد جامعة جيلالي ليابس– سيدي بلعباس