وصف الكتاب:
يسيل بلا مبالاة في مجراه الابدي، لا يكترث بما حوله من الجبال و الغابات و القرى. يستعجل الخطى لكي يستدرك موعده الابدي مع نهايته و ولادته من جديد. فهو يعرف البداية و النهاية اكثر منا جميعا. وهذا ما اكسبته خصائص اللامبالاة و التكبر على كل الاماكن اللتي يمر بها في كل لحظة من الزمن... فاللوحات هي نفسها في القرية. الغابات لا تثير انتباهه البتة، حتى الممرات الجبلية الهائلة و البراري الرملية الصفراء و المدن الكبيرة لا تحرك فيه الاثارة و الاعجاب... فيا لك من غريب الاطوار أيها المتكبر! منذ اللحظة التي حدثني فيها الرفيق آمد عن حكايتها و أنا اتلهفُ شوقاً لزيارتها و السؤال عن حالها... كانت المسافة بيننا ايام و سنين زمنية لا يمكن قطعها في الواقع...! و لكن كيف سأزورها ان رضختُ لقوانين الزمن المجحفة، لا بدّ ليّ من ايجاد وسيلة ما للوصول اليها... مثلما حدثني الرفيق آمد عنها و عن مكانها بالقرب من ذلك المتكبر، كان عليّ ان اقطع الكثير من الوهاد السحيقة و القمم السامقة لكي اصل اليها. هدفي الاساسي لم يكن الوصول إليها، انما المرور من عندها كعابرٍ سبيل طارئ ليس إلا... * * * كان يقف امامي بصوته الهدار و امواجه الفائرة، مما اوقعني في تردد من امري. هل اعبره إلى الطرف الآخر، ام لا...؟ كان عليّ ان اعبره لوحدي، وهذا ما يتطلب المجازفة للعبور إلى الشاطئ الآخر... لم يكن العبور سهلا كما تتوقعون. فلم يكن عبور نهرٍ عادي البتة! لم يكن جذفاً بالطوافة بضعة امتار للوصول إلى الشاطئ الآخر... انما كان عبوراً على نهر الزمن من شاطئ الحاضر الذي أصبح ماضياً الآن، إلى شاطئ الماضي الذي كان حاضراً قبل خمسة اعوام من تلك اللحظة التي كنتُ اهمُّ بالعبور إلى الطرف الآخر من الزمن. تماماً كما وصفه الرفيق الذي فقد احد عينيه في هذا الجبل الذي يسمونه"المسكين" بسبب جحفه وقساوة طبيعته التي لا ترحم! جبلٌ مسكينٌ لا يرحم حتى نفسه و نهرٌ متكبرٌ لا يبالي لاي شيء، حتى للا مبالاته! وبينهما لمحتُ اطلالاً قديمة ولكنها مهيبة جدا...لا اعرف لماذا شعرتُ بقدسية ذلك المكان الهادئ... المكان الذي يعتبر الخط الفاصل بين التكبر النهري والبأس الجبلي... نعم تماما كما وصفه! خمس سنوات تقهقهرتُ إلى الوراء، غاصاً في تلابيب الماضي الذي من المستحيل الغوص فيه بلا مركب... ولكنني غصت ولا اعرف كيف؟! كلما صعدت باتجاه قمة الجبل البائس(كورى جارو) فان الصخور التي تشبه الخناجرالمغروسة في كبد الارض و الصاعدة نحوالسماء، تجعلك تشعر بغطرسة هذا الجبل المسكين... هذه الصخور كانت تأوي بين احضانها الخشنة سرايا الانصار التي تربض هنا في مواجهة الحملة الكبيرة التي يشنها العدو منذ ايام على هذه الاراضي الشبه محررة" يقولون عنها جمهورية"! شواطئ النهر المتكبر، شهدت الكثير من الطقوس التي لا تنسى، والجبل البائس(كورى جارو) كان ملعباًً لرقصاتٍ ليس لها مثيل. الكل يستطيع الرقص اينما شاء ولكن الرقص على سفوح كورى جارو لشيءٌ عصيب، وهنا كانت الرقصة قائمة. رقصة مختلفة تماما عما تعرفونها عن الرقصات؛ رقصة جديدة، أو ربما قديمة وجديدة في الآن عينيه، ولكنها مثيرة جدا. النهر المتكبر لم يكن يلقى بالا على تلك الرقصات وكذلك الامر بالنسبة إلى الجبل البائس(كورى جارو) الذي يشكي ويبكي سوء حظه وبؤس حياته... لكن الرقصة كانت قائمة، حيث تدور الدائرة بلا توقف على ايقاعات القذائف وانغام الصواريخ ورنين الرشاشات وهدير الحوامات، وصرخات الموت و... إنه الخريف، يبكي على شبابه الذي مات باكرا و على كهولته الذي لم يراه ولن يراه البتة! كنا نعرف بان الشفق يمثل الضياء الوليد و الامل المنبثق بعد حلوكة الظلام الجهنمي... ولكن هذا(الشفق) كان مختلفا تماما! فقد كان اسم الحملة التي اراد من خلالها العدو ان يحرق الشمس ويقتل النهار ويسحق الوردة النابتة على المنحدرات الخطيرة...! كانت عجلة الحرب تدور بالنار و الفولاذ، فتهضم الارواح الفتية والارض الحمراء. صغيرتنا القادمة من ارض النجمة الحمراء، من بلاد القوقاس البعيدة، كانت تشارك في هذه الرقصة التي لم يتعهدها بعد. لكنها كانت مضطرة للدخول في هذه الطقوس التي لا ترحم. النهر المتكبر يعسر عليهم العبور إلى الطرف الآخر، والعدو يتقدم بكل آلة حربه الجرارة لكي يضيق الخناق على قوات الانصار، و(كورى جارو) يبكي بؤسه وحرمانه الازلي، فليس امام صغيرتنا القادمة من ارض النجمة الحمراء إلا ان تشارك في هذه الرقصة النارية ضد هذا الجنرال الذي لا يعرف لون الورد ورائحة التراب وبسمة الطفولة... لكنه يستطيع ان يزمجر بكل جحف وغطرسة قائلاً: "انا هنا. لقد اعلنوا جمهوريتهم هنا... وهنا بالذات سوف ندفن هذه الجمهورية ونجهضها للابد..."! * * * - وانتِ ايضا يا صغيرتي برفين... سوف ترقصين هذه الرقصة التي لا ترحم، سوف ترقصين على المنحدرات والسفوح و بين الصخور الخنجرية... فما باليد حيلة يا صغيرتي برفين. لكن كوني حذرة ومنتبهة جدا... لا تعرضي نفسك للمخاطر... كوني حذرة لانني قد جئت من بقاع بعيدة جدا كي القاكِ، لذا يجب ان تنتبهي حتى تصبح الاوضاع على ما يرام... الجبال الإلهية كانت قد اضحت كلها جبهات قتالية؛ بين الجبل و الوادي، الارض والسماء… و حتى مع النهر المتكبر… فهناك قامت امرأة برجوازية تقود طائرة حربية بتفجير جمجمة طفلة صغيرة تشبه الغزالة اللعوبة! وكانت نشوة المرأة(الطيارة) كبيرة جدا في نصرها الساحق لإنها تمكنت بقذيفة تزن الأطنان من القضاء على تلك الحورية الصغيرة. كانت الرقصة دائرة بلا توقف... الرفيقة برفين اصابت بطلقة في رجلها... حيث باتت الرقصة تأخذ طابعا جديا و مقتضبا على مجرى الالعاب الفولاذية... الجرح كان اليما جدا، والاكثر الما هو بقائها وحدها في غابات الجبل البائس... لم تكن المسكينة تعرف كيف تتصرف و اين تتجه... اسعفتها ذاكرتها إلى حوادث مشابهة حيث كان الرفاق يربطون فوق جروحهم حتى تتوقف الدماء عن النزف... فلجأت الصغيرة برفين إلى شد جرحها بحزامها القماشي بكل ما اوتيت من قوة وحول. بعدها بدأت تبحث عن الرفاق المنتشرين في كل مكان. لم يكن قد اصاب العظام بسوء وهذا ما اعانها على المشي و الحركة في سفوح الجبل البائس. هناك، تحت قرية أتوتى(Etûtê) الجبلية، كانوا قد اوجدوا مكانا لمداوة الجرحى.وبعد ثلاثة ايام وصلت الرفيقة برفين إلى الرفاق، حيث نقلوها فوراً إلى المعالجة. - ليتكِ لم تفعلين ذلك يا صغيرتي... ما كان يجب ان تمنعِ الدماء عن النزيف بين الحين والآخر... فالدماء المتجلطة كانت قد تجمعت حول الجرح، فآلت إلى التهابٍ خبيث. كان الورم الخبيث أو الغرغرينا يمد اذرعه كالسرطان في اطراف الجرح... كان يجب ان يتدخل الطبيب-المحروم من كل الادوات الطبية والجراحية لايقاف انتشار الورم الخبيث وإلا سوف يكون ما لا يحمد عقباه! كان الشريان الوحيد الذي يربط شطيّ النهر(المتكبر) قد انقطع جراء القذف الجوي الذي شنته طائرات العدو... وعبور النهر شبه مستحيل في تلك الاجواء الخطيرة. لكن يجب ان يصل الطبيب او على الاقل ان يرسل المعدات اللازمة للجراحة... لكن لا هذا و لا ذاك... الجرحى كانوا يتألمون كثيرا والاكثر ألما وبكائا كانت الصغيرة برفين... هذه الصغيرة القادمة من بعيد كانت تتألم كثيرا بسبب انتشار الورم في رقعة كبيرة من قدمها... لم تكن المسكينة تستطيع النوم كي ترتاح قليلا من آلامها العظيمة، كان الالم يفسد عليها قرة العين..."آه ياصغيرتي برفين! ما كان يجب ان تفعلي ذلك، فقد نصحتك بالحذر وأخذ الحيطة...". "اصبري قليلا يا صغيرتي. اصبري، فسوف ياتي الطبيب وينهي آلامك... أصبري قليلاً ياصغيرتي برفين انه سياتي اليوم... ". كانت الدموع الحرّى تنهمر بلا انقطاع من عينيها العسليتين. النهر المتكبر لم يكن يبالي لآلامها العظيمة، والطبيب كان حائراً في كيفية عبور النهر حتى يسعف الرفاق الجرحى لان حالة بعضهم كانت في تدهور دائم وخاصةً الرفيقة برفين... - أيها النهر المتكبر! ابسط قاعك حتى يمر الطبيب كي ينقذ صغيرتي من آلامها العظيمة. كفاك أيها المتكبر غطرسة و لامبالاة نحونا... وإلا سوف احرقك و أودي بغرورك و لامبالاتك إلى الجهنم! ان صغيرتي لم تعد تقدر على تحمل الآلام...! لكن هذا المتغطرس لم يكن يبالي لصرخات احزاني على الصغيرة برفين. كان الورم الخبيث قد جنّ جنونه وراح يفتك بلحم المسكينة بلا توقف. عندما وصل الطبيب، كان نصف رجلها قد اصبحت لقمة صائغة للغرغرينة. و لا أملٌ يرجى من معالجتها... لذلك كان لابد ان يتخذوا القرار...! كان يجب ان يبتروا ساقها من تحت الركبة، كي يسدوا الطريق امام صعود الورم الخبيث إلى القسم العلوي من الطرف. - ليس سهلاً ان تبتروا رجل المسكينة، انها ماتزال في يناعة الورد، ارحموها يااعزائي... انها لاتستحق ان تعيش برجل واحد. - ما باليد حيلة فمن المستحيل بمكان ان نوقف انتشار هذا الورم الخبيث، وليس امامنا سوى ان نبتر الجزء الذي فتك به الورم، إلا... - و إلا ماذا يا رفيق-الطبيب؟ ما الذي تريد قوله؟ ماذا يعني "و إلا..."؟ - اي ان الامر في غاية الخطورة و يجب ان تتفهموا الوضع... استمرت العملية لساعاتٍ طويلة، تحت هدير الطائرات وانفجار القذائف والقنابل وازيز الرصاص. وانتهت العملية، حيث ان صغيرتنا برفين كانت قد فقدت رجلها لكن الالم لم يتوقف و كذلك الورم كان قد تسللّ إلى الطرف العلوي للجرح وهذا ماجعل الاطباء يضطرون إلى اجراء عملية اخرى كي يبتروا فوق ركبتها ايضاً...! ولكن الورم لم يكن يبالي لمداخلات الاطباء وعملياتهم الباترة، حيث كان ينهش جسد المسكينة بلا رحمة فحالت-المسكينة إلى كومة من عظام وجبل من الآلام و نهرً من الدموع و... الورم كان قد وصل إلى اعلى الفخذ، هازئاً بالطب والجراحة والعواطف الانسانية. والاطباء كانوا في حيرة من امرهم من هذا الورم الخبيث الذي لايتوقف رغم كل شيء...! - يجب ان نبتر فخذها من المفصل حتى نزيل جذور الورم من اساسها. - لكنها لن تتحمل كل هذه العمليات يا دكتور! ارحموها... إنها صغيرة لاتتحمل... - وهل تريدنا ان نتركها فريسة لهذا الورم الخبيث حتى يقضي عليها؟ قل ليّ. هل تريد ذلك؟ هل من الانصاف ترك الصغيرة فريسة في مصيدة الغرغرينا؟ - لكن لاتنسوا ان هذه العمليات سوف تودي بها إلى ... في باتت في مصيدة المشارط و السكاكين... - ما باليد حيلة! فنحن مضطرين على إجراء هذه العملية- الاخيرة... انها أملنا الوحيد. نحن مجبرون... ارجو ان تستوعبوا موقفنا نحن مضطرين لذلك... "آه ياصغيرتي برفين. لم اعد اتحمل رؤية آلامك ياصغيرتي، اغفري ليّ لانني لا استطيع ان افعل شيء لكِ، فبيننا خمس سنوات من الزمن الذي لايمكن اختراقه ابداً..." - سوف نجري لك العملية يارفيقة برفين، هل انت جاهزة؟ - وهل ستنتهي آلامي بعد العملية يادكتور؟ هل سأشفى من هذه الآلام؟ - نعم يارفيقة سوف تكون نهاية الآلام... سوف نخلصك من الآلام يارفيقة... - بعد العملية هل سأتمكن ان انام يادكتور...؟ ان عيني لم تريا النوم منذ مدة طويلة اريد ان انام كثيراً يادكتور هل سأستطيع ان انام كما اريد...؟(كانت اشراقة امل كئيبة تسطع من عينيها الغارقتين في الدموع و وجهها المصفر). - نعم يارفيقة، سوف تنامين كما تشاءين ياصغيرتي... " سوف تنامين ياصغيرتي، سوف تنامين، ولكن هل ستتوسدين هذه الصخور الخنجرية وتنامين في احضان هذا الجبل البائس، فيهدهدك صوت النهر و يتلاعب بخصلات شعركِ نسمات الرياح التي تهب من الجبال البعيدة، أم ماذا...؟" كانت الصغيرة الهادئة المخدرة تنازع تحت المشارط والمقصات الحادة التي كانت تعضُ جسدها الناعم فتبتر فخذها من المفصل العلوي. استمرت العملية اكثر من ثمانية ساعات. وعمليات حملة الشفق كانت دائرة على قدمٍ وساق والصراع قائم بين سلطان الموت الجبار وبين روح هذه الفراشة الصغيرة التي تنازع جبروته بجسدها المنهوك... انه الصراع الابدي بين حب الحياة والموت فأيهما سينتصر ياترى؟ الكل ينتظر النتيجة. الرفاق الآخرين كانوا قد تناسوا آلامهم و آهاتهم؛ لهفة و قلقا على الصغيرة. "سوف تقوم الآن و تهرع إلى العابها و مشاكساتها المدللة، سوف تقوم الآن لكي تذهب إلى موعدها مع الغزلان، سوف تجمع لنا الورود و تنشر ابتساماتها الملائيكية علينا.فـالنرجس و السوسن و النسرين بانتظارها..." شارفت العملية على الانتهاء وكانت الصغيرة برفين قد غطّت في نومٍ عميقٍ جداً. فلا الآلام ولا اصوات الانفجارات لن تفسد عليها نومها الهادئ. حتى دموع رفاقها واحزانهم الحارقة على نومها الابدي لن يفسد عليها هنائها بالنوم. ارتاحت من عذاباتها وآلامها وحرمانها من النوم... " نامي يا قرة عيني، نامي كما تشاءين، فسوف أحرسك ريثما تنهين و تشبعين من النوم فأنا لأجل هذا قطعت كل هذه المسافات وبترت الزمن الذي لا ينبتر ابداً، لكي أراكي ياصغيرتي الساكنة على شاطئ النهر الازلي. فما زلتِ نائمة هنا يحرسك اربعة من رفاقك الذين لحقوا بك كي يشاركوك المرقد الخالد..." * * * انها هنا بلا ريب، تماماً كما وصفها الرفيق آمد، لكنه لم يتحدث لي عن هذه النافذة التي اودت بيّ إلى الماضي؛ يبدو انه نسيّ أو سهى عن الحديث. لكن لابأس فانني سوف اتابع سبيلي نحو ارضٍ مجهولة لا اعرفها. سأصعد هذا الجبل البائس واعبر نهر القداسة والحب، حيث يستقبلني سلطان الموت الناري ساداً عليّ دربيّ الابدي، فأعود ادراجي إلى مرقدها الازلي وأخرُّ ساجداً لها ولآلامها العظيمة، فهي قد امست في روحي وفكري مثل القصيدة... آه يا صغيرتي دعيني أصنع من عظامك ناياً أعزف به لحن أشجان الجنون و أرثو حزني عليكِ يا راقدة حتى الخلود في أحضان العين الباكية و حرقة قلبيّ الشريد دعيني أحضن عظامك المتشطرة في سفحٍ محروقٍ بأنين هلمّي معي … نداوي جروح الزمن و نزيل آثار الطلقة اللعينة التي أخترقت بدنك سأحمل ساقكِ المبتور معي و نذهب سوياً إلى أرضٍ لا نعرفها و سماءً لا نعرفها سأحمل ساقكِ المبتور معي و أكتبكِ قصيدة و أقصوصة في دفتري الحزين عن صرخاتك تحت المشارط و آلامكِ العظيمة و نومكِ كقطة صغيرة في صباحات الربيع * من المجموعة القصصية(آه يا صغيرتي)