وصف الكتاب:
فلمّا كان التوحيد ذروة سنام الإسلام، والشرط الأساس لصحة الإيمان، فقد حافظ على صفائه المسلمون، ونافحوا عنه منذ عصر النبوة إلى هذا الزمان، وإلى أن تقوم الساعة بفضل من الله تعالى وإحسان. ولا شك في أن علماء التوحيد هم الذين تحملوا الجزء الأعظم من هذه المسؤولية الشريفة؛ فهم حماة العقيدة، وهم الواقفون على حدود الشريعة، يدفعون عنها كل تحريف أو تعطيل أو شبهة قبيحة، مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "يَرِثُ هَذَا العِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَأوِيلَ الجَاهِلِينَ وَانْتِحَالَ المـُبْطِلِينَ وَتَحْرِفَ الغَاليينَ". ولقد تعاقب على إرث هذا العلم أجيال من أولي العلم والنهي، بدءاً بالصحابة الكرام، والتابعين لهم بإحسان، ثم تبعهم الفقهاء الأربعة، وأوَّلهم أبو حنيفة النعمان (ت 150هـ)، ومالك الأصبحي (ت 179هـ)، ومحمد بن إدريس الشافعي (204هـ)، وأحمد بن حنبل الشيباني (ت 241ه). وتبع هؤلاء خلائق من أهل الإسلام، ولما اجتاحت الأمة الإسلامية أفكار غريبة يونانية وأخرى كتابية، تنبه أتباع هؤلاء إلى التقعيد لأصول الدين كما قعَّد شيوخهم للفروع؛ فبرز منهم أو جعفر الطحاوي (ت 321ه)، وأبو الحسن الأشعري (ت326ھ)، وأبو منصور الماتريدي (ت 333 ھ)، الذين أسهموا في تأسيس مذاهب في علم العقيدة انتشرت في الآفاق، وتقبَّلها كبار العلماء بالشرح والبيان جيلاً بعد جيل في المشارق والمغارب. وجاء الإمام أبو علي عمر بن خليل السكوني (ت 717ه) فورث من ذاك العلم، وراح ينافح عن عقيدة الإسلام على طريقة أبي الحسن الأشعري، وكان أهلا لهذا المقام؛ لما أوتي من قوة وحسن إبلاغ، وبراعة الجدل والمناظرة وعلم الحجاج. ولا نستغرب هذا التفوق الكبير لهذا العلم، إذا علمنا أنه فرع من أصل طيب وشجرة مباركة، اتصفت بالعلم والتقى، أعني عائلة السَّكونيين التي سطع شمسها في الغرب الإسلامي؛ في كل من الأندلس وتونس والمغرب الأقصى. ومن هنا جاء البحث في شخصيته وآرائه الكلامية، واختياراته العقدية، قاصداً إحياء تراثٍ فكريِّ لعَلَم من أعلام الغرب الإسلامي. والمقصود بهذا الموضوع: التعريف بأبي علي السكوني؛ وذلك بوصف عصره سياسياً وثقافياً، وذكر سيرته متعلماً وعالماً، مالكياً وأشعرياً، فهذا هو الشق الأول من بحثي، وله أهميته في التشويق والإفهام؛ فأما التشويق فيتجلى في تحبيب القارئ في صاحب الدراسة وتشويقه لمعرفة آراءه وأفكاره، وأما الإفهام فيتمثل في كون معرفة الشخصية والإطلاع على سيرتها الذاتية، يمكّنان من فهم ما أشكل من الأفكار، وما أُبهم من المعطيات حول أي قضية أثيرت في عصره. وأما الشق الثاني من الموضوع، فقد قصدت به عرض آراء السكوني الكلامية عرضاً لا يخلو من الإضافات، ومن التعليقات، وما يترتب عنها من المقارنات، وما ينشأ عن ذلك من الخلاصات والإستنتاجات، وكان لإختياره دوافع شتى وهذا ما سأجمله في الآتي...