وصف الكتاب:
"ثانيا: هل الشعبوية الجديدة مُفزعة أم فزْاعة؟: هذا سؤال يثيره القلق الواسع من شعبوية القرن الحادي والعشرين، سواء في الدول الديمقراطية التي ظهرت فيها أو خارجها. وبرغم أن للفزع من هذه الشعبوية ما يُبرره في غياب معرفة كافية بأحزابها وحركاتها، توجد مؤشرات كافية إلى أن هذه الأحزاب والحركات تُستخدم للتفزيع من أي مسعى إلى تغيير في النظام الديمقراطي التمثيلي، وتخويف من يشاركون، أو يفكرون في المشاركة في الاحتجاجات التي تعبر عن إحباط متزايد من إمكان تحقيق مشاركة شعبية فاعلة، وتهدف إلى مراجعة سياسات تؤدي إلى ازدياد التفاوت الاجتماعي، وتفاقم الاختلالات في المجتمع، أي تُستعمل كفزاَّعة. وفي هذا التفزيع جانب عفوي عندما يأتي من سياسيين ومثقفين محافظين يُزعجهم أي نوع من عدم الاستقرار، ويخشون أن تؤدى الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية إلى حالة من الفوضى بدرجة أو بأخرى. ولكن فيه أيضا جانبًا قد يكون منظمًا أو موجهًا من أصحاب المصالح في المحافظة على أوضاع قائمة، وبالتالي على النظام الديمقراطي التمثيلي كما هو، ورفض تطعيمه بأشكال من الديمقراطية المباشرة لإخراجه من أزمته التي تفاقمت منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، فيستخدمون صعود التيارات الشعبوية فزاَّعة للتخويف من هذا التغيير. ولا يُفّرِق كثير من أصحاب هذه الفزاَّعة بين الشعبوية اليمينية واليسارية، فيما يضطر بعضهم إلى التفريق بينهما والإقرار بوجود تفاوت في ما يرونه خطراً مترتباً على صعود هذا أو ذاك منهما. ومن الطبيعي أن يكون استخدام هذه الفزاَّعة أوسع نطاقاً في حالة التيارات الشعبوية اليمينية، لسببين. أولهما الشعبية التي حظيت بها أحزاب معبرة عن هذه التيارات في عدد متزايد من الدول الأوروبية في العقدين الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين، في الوقت الذي بقى صعود التيارات الشعبوية اليسارية في حدود أضيق. والثاني سهولة التخويف من الشعبوية اليمينية عبر المجادلة بأنها إما فاشية، أو شبه فاشية، أو ستُعيد إنتاج الفاشية التي يفترض البعض أنها ليست تجربة معزولة في التاريخ، بل قابلة للتجدد، وأنه ليس هناك ما يحول دون إعادة إنتاجها في صور أخرى(5). وهذه مجادلة تُطلق على عواهنها، في صورة أحكام مطلقة، وتغفل الاختلاف الكبير بين الظروف التي ظهرت فيها الفاشية، وشقيقتها النازية، بعد الحرب العالمية الأولى، وأوضاع العالم في بداية القرن الحادي والعشرين، وتُعد هذه المجادلة أحد تجليات استخدام مصطلح الفاشية في غير قليل من الحالات بخفة بعيدًا عن سياقه، لشن هجوم ضد خصوم سياسيين أو فكريين، والسعي إلى شيطنتهم، فصار أحد المصطلحات التي تفتقد الدقة في دلالاتها بسبب كثرة استخدامه في غير محله. لقد ظهرت الفاشية في البلدان المهزومة في الحرب العالمية الأولى، والتي شعرت قطاعات واسعة من شعوبها بالإذلال، وفقدت مساحات من أراضيها، وخاصة ألمانيا، وإيطاليا، مما أدى إلى تشدد قومي حاد استغله سياسيون مغامرون عبر أحزاب تشبه في بعض جوانبها الحركات الشعبوية، لكنها تختلف عنها في مسألة جوهرية، وهي الموقف تجاه الإجراءات الديمقراطية بما تعنيه من تعدد حزبي وسياسي، وانتخابات دورية حرة، وتوازن بين السلطات، وقبل ذلك مجال عام مفتوح للمشاركة الشعبية بمختلف أشكالها. غير أنه لا توجد أدلة مقنعة بأن شعبوية القرن الحادي والعشرين ضد الديمقراطية. ولا نجد في مواقف التيارات الشعبوية، وخطاباتها، ما يمكن أن نعده رفضًا للديمقراطية، أو عداءً ضدها، بالمعنى الذي أوضحناه عند تدقيق المصطلحات في الفصل الأول."