وصف الكتاب:
أصبح التحكيم في المنازعات التجارية الدولية بصفة عامة، ومنازعات الاستثمار بصفة خاصة، أحد الوسائل الرئيسة لتشجيع وانتشار الاستثمار بين الدول، فإستراتيجية الاستثمار لأي مستثمر تعتمد على مقوم على التحكيم كوسيلة لحسم المنازعات الناشئة عن الاستثمار قبل الدخول في طبيعة ونوع الاستثمار والالتزامات المتبادلة بين المستثمرين. لذلك تبوأ التحكيم مكانة مهمة كوسيلة لتسوية منازعات الاستثمار، تجسدت في غالبية القوانين الوطنية للاستثمار وأيضًا الاتفاقيات الدولية لحماية الاستثمار، وأفردت له مساحات كبيرة من البحث والتنظيم، وصلت إلى حد اعتبار التحكيم الوسيلة الوحيدة لتسوية منازعات الاستثمار. أما الاستثمار في التحكيم، وإزدواجية دوره ما بين تسوية منازعات الاستثمار كوسيلة ضامنة لتشجيع الاستثمار وفي نفس الوقت وسيلة للاستثمار، فهو أمر جديد يكشف عن ثقافة جديدة، تحتاج إلى جهود حثيثة لإماطة اللثام عن وجهها المستور وفلسفتها التي تخفيها. وتمويل التحكيم من طرف ثالث أو من الغيرThird Party Funding ، ما هو إلا صورة من صور الاستثمار، أيًا كانت المبررات التي يقدمها أنصار تمويل التحكيم التجاري الدولي من طرف ثالث. وهذا ما عبر عنه البعض، بقوله إن تمويل الطرف الثالث هو استثمار في حد ذاته Investment في التحكيم وإن كان استثمارًا عالي المخاطر يوصف بأنه استثمار محفظة Investment Portfolio بدلاً من الاستثمار المباشر. ولا شك، أن للتحكيم متطلبات وضوابط كنظام قضائي خاص، له من القدسية التي تستوجب الالتزام بإجراءاته واحترام خصوصيته. وفي نفس الوقت للاستثمار متطلباته، التي تكفل نجاحه وانتشاره بين الدول، وقد تتعارض تلك المتطلبات والأهداف والفلسفة التي يقوم عليها كل منهما. فبعد أن كان التحكيم وسيلة لفض منازعات الاستثمار، أصبح أيضًا بيئة ومناخًا للاستثمار، لذا لابد من تهيئة التحكيم للاستثمار، وتهيئة الاستثمار للتحكيم، وهذا تحدٍ كبير، يتطلب جهودًا حثيثة على مختلف الأصعدة الفقهية والتشريعية والأنظمة التحكيمية. وأول هذه التحديات التي تواجه تمويل التحكيم التجاري الدولي من طرف ثالث، تتعلق بالنطاق الشخصي للتحكيم، والذي يعتبر أحد أهم خصوصيات التحكيم التي تكفل سريته، وأحد العلامات الفارقة بين التحكيم والقضاء، فالتحكيم يتميز بانحسار نطاقه الشخصي في أطراف النزاع وهيئة التحكيم وما تقتضية الخصومة من أعوان كالشهود والخبراء والمترجمين، في حين تفتح الخصومة القضائية أبوابها للجمهور. ولا شك أن قضية التمويل من خلال طرف ثالث في التحكيم، غالبًا ما تشير إلى رغبات متقابلة بين أطراف عملية التحكيم وبين الممول من الغير (Funder)، فأطراف التحكيم يتطلعون إلى عدالة سريعة مع توفير الإمكانيات اللازمة، والغير أو الطرف الثالث الممول يتطلع إلى الربحية من خلال استثمار أمواله في قضية يأمل أن تحقق له عائداً مجزياً لاستثماره، وعلى الجانب الآخر نجد هيئة تحكيم تتطلع إلى إنهاء نزاع في ظل إجراءات سليمة قوامها حيادهم واستقلاليتهم. لذا تتطلب تلك الرغبات المتقابلة جهود من الجميع في ظل تنظيمات تكفل ذلك، فرغم أنها تطلعات مشروعة لكل طرف، إلا أن متطلباتها قد تكون متعارضة ومتناقضة مع بعضها البعض، مما يؤثر على سير عملية التحكيم، وهو ما يخشى معه انقلاب التحكيم إلى تجارة همها التربح على حساب العدالة والنزاهة. ويحدث تمويل الغير للتحكيم عندما يقوم طرف ثالث غير ذي صلة بالنزاع أو أطرافه بتوفير المال لدعم الطرف المتنازع في دعوى قانونية، وفي المقابل يتلقى الطرف الثالث جزءًا من العائدات الناتجة في حال نجاح المطالبة أو لا شيء في حالة فشلها. ويعرف التمويل باسم "تمويل المطالبة أو تمويل التقاضي البديل أو تمويل التقاضي من طرف ثالث" ويطلق على متلقي التمويل "صاحب المطالبة" أو الممول (Funded) وعلى الجهة الممولة (Funder) ويشار إليه اختصارًا في الكتب والأبحاث الأجنبية بـ (TPF) تعبيرًا عن ترتيبات التمويل من طرف ثالث وتعني “Third-Party Funding”، وهي المقابلة لمفهوم "الغير" في فقه وقضاء التحكيم العربي. وتعتبر ممارسة التمويل من طرف ثالث ظاهرة مهمة جدًا وتتطلب دراسة مستفيضة لعدة أسباب، منها: أولاً: هذه الصناعة حديثة نسبياً، وبالتالي غير خاضعة للتنظيم القانوني أو حتى اللائحي في لوائح التحكيم المؤسسي، ومعضلاتها لا تزال دون حل وفي حاجة إلى ذلك. ثانيًا: اجتذب تمويل الطرف الثالث الخلافات العقائدية ليس حول شرعيته فقط، خاصة في البلدان القائمة على القانون العام المناوئة لتدخل الغير المالي في التقاضي الغير وهو ما يسمى في الفقه الإنجلوسكوني بـ (Champerty and Maintaninance)، ولكن أيضًا التحديات الأخلاقية خاصة فيما يتعلق باستقلالية المحكم والشروط غير العادلة المحتملة في ترتيبات التمويل من طرف ثالث. إن كل ما تقدم وغيره يفرض علينا التعرف على جنبات هذه الظاهرة وباطنها، في محاولة لسبر أغوارها، والتكيف مع تحدياتها الجمة بعد أن أصبحت واقعاً يهفو إليه كل محتاج، ومتطلع للعدالة.