وصف الكتاب:
نبذة الناشر: " كانت ساعة الحائط في عيادة الطبيب النفساني بيلي هايدر تشير إلى الرابعة والنصف عصراً ، عندما دلف إلى الغرفة التي يواجه فيها مرضاه المنهكين الذين تجاسرت عليهم الهموم وأنهكهم الكرب والبؤس ، فساقهم القنوط والوهن إليه ، ينشدون الخلاص من آلامهم النفسية وعذاباتهم العاطفية ، وقد أعدّ لذلك الشأن مقعدين متقابلين من الجلد ومنضدة صغيرة مستديرة ، ينتصب فوقها جهازٌ للتسجيل ودفترٌ متوسط الحجم . وفي الأركان توزعت المصابيح التي ترسل أنواراً خافتة ، ما يضفي جواً من الدفء والحميمية ، وعلى الجدران تراصفت بعض اللوحات الغريبة التي تحوي رموزاً أشبه بالطلاسم . وفيما يوضّب حقيبته البنية ويدسّ فيها رزمة من التقارير ، طرقت مساعدته الحائط ، وأوعز الباب وشقّته قليلاً ، ثم أخطرته أن المريض نبيل حيد ينتظر في ردهة الإستقبال وقد تأخر الموعد المحدد له نصف ساعة . رمق ساعة إليها كي تدخله . أفسحت الطريق للمريض للولوج إلى الغرفة ، ثم رتجت الباب خلفه وعادت إلى مكتبها . لم تكن مشكلة نبيل النفسية كسابقاتها من الحالات التي عاينها الدكتور هايدر ذلك النهار ، ولم تكن كذلك الجلسة الأولى ؛ بل سبقتها ثلاثة لقاءات خلال عشرة أيام ، ولكن نبيلاً بدا في هذه الزيارة كليلاً مرهقاً ممتقع المحيّا ، كأنه كابد كثيراً وحرمه السهاد من التنعم بقسط كافٍ من النوم ، وما أن استلقى على مقعدٍ كالفراش الوثير ، حتى غالبه الوسن ، فاستشعر الطبيب بحاجته إلى قيلولة تشحنه ببعض الطاقة . منحه بضع دقائق ثم هرج باتجاهه وأيقظه بلطف . وبالرغم من ذلك ، استفاق مذعوراً كمن دهمه كابوسٌ مفزع ، فتصبب جبينه عرقاً ، وراح يلهث من أعماقه . ربّت على كتفه ليهدأ ويستكين ، وملأ كوباً من الماء واسقاه ، فرشفه كمن نال منه ظمأٌ عتيق . استشعر الدكتور حصول انتكاسة لحالة مريضه الشاب ، بعدما خطا في الزيارة السابقة نحو التحسن وتوسّم خيراً ؛ إلا أن ما استجدّ يستوجب أولاً استبيان ماحدث ، ليبني على الشيء مقتضاه . نصت برهة من الوقت قبل أن يستعيد استكانته واسترخاءه ، بعدما رفده جرعة مهدىء ، فانفرجت أساريره وشعر بقشعريرة تسري في جسده ، ثم رمق الطبيب بنظرة لا تخلو من التساؤل عما يجول في خاطره ، وما إذا كان بإمكانه التحدث إليه . تلقف الدكتور الستيني تلك النظرة ، بخبرته المديدة في التعامل مع الأمزجة والطبائع والتقلبات النفسية المختلفة ، ودقة تقديره لاختيار الوقت الملائم للّوذ بالصمت أو التفوّه بالكلام ، .. فشعر بتلك الرغبة العارمة لدى نبيل في الإفصاح عما يدور في خلده من أفكار ، وفي طويته من تشظّي الأحاسيس .... حبس أنفاسه قليلاً ، أطلق من صدره زفرة تعبّر عما يختزنه من معاناة ، وأردف قائلاً بعدما رمقه بنظرة حائرة من عينيه الغائرتين : رجعت الصور والأفكار المتعبة تراودني ، حتى إني ما غفيت ولا لحظة ليلة مبارح . شو شفت فيك تحدد ؟ - كثير إشيا بتشبه الحلم ، بس مش حلم ، شفت كأنها فيلم . – شو بتتذكر شي معين [ ... ] وكأن القارىء يغوص مع الكاتب في عمق الأشياء كما ذاك الطبيب النفسي الذي يحاول استجلاء ما يعتمل في داخل مريضه من عوامل كانت الباعث على استكانات النفس وارتكاساتها .. فيعمل الطبيب على إيقاظ الروح .. فيلمح القارىء فيما يلمح استشفافاتها ... ويُسمع هسيسها .. هي حكاية هسيس الروح .. هي رحلة من الذات إلى الذات ، قد توحي بأحداثها وأبطالها أنها مجرد رواية كسواها من الروايات .. أو إبحار في متاهات الروح ، تلقي الضوء على إشكالية وجودية ، قد تكون بالنسبة إلى البعض مجرد مجموعة مصادفات ، ولآخرين ضرورةً أو ربما أكثر ، وقد يراها غيرهم محاكاةً لقناعاتهم ، وينظر إليها آخرون كوليد الوهم وشرود المخيّلة .