وصف الكتاب:
من رواية : غيابات الجب توقّف الضرب. عببت الكثير من ماء الطاسة، ثم سكبت ماتبقّى فيها على البطانية المحاذية للباب. وضعت فوهتها على الجدار القريب لمصدر الصوت، وضعت أذني على قاعدة الطاسة ورحت أصغي بكل جوارحي: - اكتب التعهد يا (...) ولاتورينا خلقتك مرّة تانية. إذا شفناك أابدنا نشنقك غير من خصاويك. بعد دقيقتين، سمعت خلالهما حركة بناديل كل ساعات العالم، برتابتها وإيقاعها المخيف، اتّضحت لي حركة تسليمه أماناته. أصوات أبواب يتوالى صرير فتحها وإغلاقها، ومع كل باب يبتعد الصوت أكثر. ثمّ عاد الهدوء. ارتميت كالقتيل على البطانيّات، ورحت أتنفّس بسرعة من يحسّ بوشك نفاد الاوكسجين. بطلٌ حازم هذا، تلقّى التعذيب بشجاعة، ولم يعترف بشيء، ولم يُبدِ أيَّ ضعف أمام وقع السياط. الحمد لله.. لن تنفتح إذن ملفّات جديدة تعيدنا إلى بداية عذاب آخر. أصغي إلى نداء الروح الداخلي وأنا أتحسّر على مَن يحبّون بلادهم، فتَحول السجون بينهم وبين أحلامهم: ياظلام السجن خيّم. الغريب أن روحي تنبض سعادةً فيملأ المكان نورٌ غامض. تُرى هل استُجيب دعائي حتى أمسيت أشعر بالسكينة، أم هو إدراكي لغياب الفرح عن سجّاني الذي لايغادره الخوف، ولايفارقه القلق. يسجُنُ جسمي فأسجن روحه. يدور في رأسي لحن " ياحيف" وتغيب عنّي معظم الكلمات. مالي أحسّ أن ذاكرتي تضعف؟ لم أعد أذكر الكثير مما أعرفه. تلحّ عليّ أبيات من الشعر، وآيات، واقوال لفلاسفة، فلا أتذكّر سوى شذرات مما أعرف. الآن أريد أن أتذكّر؟ ومافائدة ذلك، إذ صمّمتُ أن تبقى لي أيام معدودة في الحياة؟. أتذكّر الحديث الشريف: إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها. ولكنْ، ماالذي يمكن أن أغرسه هنا؟ مالي غير الصلاة. الدعاء الذي بات ملحّاً، كي لاأموت من القهر هو: اللهم أسعدني. يارب اجعل نفسي آمنةً مطمئنّة. أقوم فأصلّي. لاأدري. ساعة.. ساعتان.. ثلاث؟ لاأعرف. يفيض دمعي بلا سبب وأنا أردّد بحرقة: اللهم إنّي أسألك الشفاء من كل داء، والنصر على الأعداء، وتخليصي من كل بلاء. كثير من الأدعية التي كنت أردّدها نسيتها، ولم يعد لديّ سوى أدعية أبتكرها، وتناسب ماأنا فيه. النبي يونس: ماكان دعاؤه الذي نجّاه من بطن الحوت؟ ولكنني لست في بطن حوت يلهمه الله مايفعل. أنا في بطن وحوش لاتعرف الرحمة ولاالشفقة. لا.. بل لاتعرف معنى الإنسانية. اللهم إنى أشكو إليك ضعف قوتى.. واعوذ بك من غلبة الدَّين وقهر الرجال. الدّين.. الدّين. أتذكّر الكلمة وأضحك. عندما كنت في روضة النسر السوري، تعلّمتُ الكثير من الحروف والكلمات، ونَمَتْ لديّ عادةُ تهجئة اللافتات. لاأترك جملةً مكتوبة في الطريق إلاّ أحاول قراءتها، بل وأرسم شكلَ حروفها بأصبعي في الهواء: مــ مـ نــــو ع... مــــــ و قــــــ ف. غير أنّ الجملة التي استعصى عليّ فهمها، وغدت تشكّل هاجساً لديّ، هي الجملة التي أراها منتشرةً على نطاق واسع في واجهات معظم المحلاّت التجاريّة، وخاصّة محالّ البقالة: الدّين ممنوع. بقيتُ فترةً طويلة أقلّبها في ذهني، وأفكّر فيها، وأهجّي حروفها.. ولكنّني لم أفلح بالاقتناع بها. كيف يكون الدّين ممنوعاً؟ ومَن منَعَه؟ ولم أعد أذكر: هل اكتشفتُ السرّ بنفسي، أمّ أنّ قلقي في فهمها دعاني للاستفسار عن سرّ تواترها؟ المهم، اتّضح، أخيراً، أنّ المقصود هو الدَّين(بفتح الدال، لا بكسرها) وصار منطقيّاً أن يكون الدَّينُ ممنوعاً. من يومها أضحى لضبط الكلمات بالشّكل، أهميّة خاصّة عندي. يعاود دعاء يونس بالإلحاح على ذاكرتي: ماكان دعاؤك يايونس؟ قل لي. نعم، هذا هو: (لاإله الاّ أنت سبحانك، إنّي كنت من الظالمين). ولكنْ.. فقط هذه الكلمات هي دعاء يونس؟ لا أعرف.. هناك شيء آخر ليكتمل الدعاء. لاأذكر ماهو. ولكنّني لست من الظالمين. أنا من المظلومين. من المسحوقين. زمرة من الأغبياء يقولون: مكّننا الله في الأرض. هل حقّاً يمكن أن يمكّن الله الفاسدين المفسدين؟ هل غرقتُ بالخطايا لأنال العقاب؟ هل يمكن أن يكون أيّ واحد من هؤلاء الذين يملكون زمام رقابنا في هذا السجن أفضل منّي؟ يبدو أنني أسترسل في الشطح. مافائدة هذا الكلام؟ أصيح بصوتٍ عالٍ، من غير أن أنتبه إلى المكان الذي أنا فيه، فأنا غارقٌ في بئر الظلمات: - يااااارب... ياخالق السموات والأرض نجّني. مالي غيرك يا ألله.. يا ألله. اسمع وقع شحاطة تجحف، فأتذكّر أنني في زنزانة من لايرحم. أعود إلى الصلاة حيث قدّرتُ القِبلة باتّجاه الباب. أواصل الصلاة وقتاً طويلاً، وليس ثَمّة فائدة من عدّ الركعات. حين كنت ساجداً، وكنت أطيل السجود، فُتحت الطاقة الصغيرة، فاضطجعتُ بسرعة إلى جانبي الأيسر، متظاهراً بالاسترخاء. رمى شخصٌ ما ثلاث ورقات وقلماً وهو يقول: - بعد الفطور تعطينا إيّاها مليئة بالاعترافات. ماتكتوووب شي عالحيط ولااا.. قرد. جاءت الأوراق في وقتها، لعلّ الكتابة تسرّي عنّي، ولعل ماأكتبه يلقى استجابة. السيد رئيس فرع المخابرات العسكريّة المحترم تحية عربية طيّبة وبعد إنّني هنا منذ أكثر من أسبوع، بل عشرة أيام كما أظن. وجرى معي التحقيق مرّات كثيرة، واتّضح أنني لم أفعل شيئاً يؤذي وطني الذي أحبّ. وينبغي أن أكون صباح اليوم في مشفى "الحميّات"، لآخذ ابرة علاجي من السرطان. ولاأدري مافائدة احتجازي هنا. لو أنني كنت في الخارج وأقنعتُ كلّ يوم ثلاثة أشخاص بعدم جدوى التظاهر، وأنه ينبغي أن ننضم جميعاً للحوار، لكنت خدمت البلد وساهمت في إنقاذها من الضياع، بدلاً من بقائي هنا مهمَلاً بلا فائدة. وأنا هنا أقدّم اعتذاري إليَّ، لأنّني عبر خمسين سنة كبحت جميع شهواتي، وعنّفت نفسي، كي أحافظ على تاريخ نظيف لاتشوبه شائبة. ماأعرفه كثير، وما أعانيه أكثر، وبالرغم من ذلك لاتتغيّر قناعتي بأن الحلم سيّد الأخلاق، وأن التدرّج خير الوسائل لتخليص أنفسنا، وتخليص الأمة من أوثان العصر، ومن وحل التردّي الذي نعانيه في علاقاتنا اليومية. أعرف أنني من (الكتَبَة) الذين يثرثرون بما يوحي للآخرين أننا نمارس جعجعة ولا ننتج حبّةً من طحين. ولكنني - ككل البسطاء القانعين - لاأطلب مالاً كثيراً ولا أطمع في منصب أو وجاهة. ولكنني - أيضاً - ككل الذين يبحثون عن مظلّة أو رابطة تقيهم غدر الزمان والتيه في الأوطان، بادرت للانتساب إلى اتحاد الصحفيين، واتحاد الكتّاب العرب، وجمعية العاديات، ونادي التمثيل للآداب، وجمعية العلوم، وغيرها... ، كي أحتمي من آكلي لحوم البشر، الذين لايتورّعون عن خطف اللقمة من أفواه الجائعين، ليغتنوا. وتوهّمت أن شرف الانتساب إلى تلك الروابط والاتحادات، يعزّز كرامتي ويقيني من أسماك القرش البرّية، من خلال إدراكها أنني لستُ وحدي من يواجه الكبار الذين يحاولون أكل صغار بني جنسهم. ولكنّ الذي حدث أن بيتي قد اقتُحم بطريقة غريبة واقتادوني إلى هنا، وكأنني مجرم. خمسون عاماً تحمّلت خلالها الآلام النفسية والجسدية وأنا أعاني شظف العيش، متوهّماً أن طلب العلم أشرف من طلب المال، وأن التضحية في سبيل العلم تلقى صدىً جيداً لدى الآخرين، فيُكبِرون صاحبَها ويصدّون عنه الأذى والمهانة، فكل الأمم تكرّم علماءها وتحافظ عليهم وتمنع عنهم الأذى. أذكر أنني عندما قدّمت أعمالي إلى مُجَلِّد الكتب، قال لي: - إنّ كتاباً واحداً من هذه الأعمال كفيل بمنحك (فيللا) في أوروبا، تقدّمها البلدية عادةً للكتّاب مع راتب جيّد كي يتفرّغوا للكتابة. أقدّم اعتذاري للمجلِّد، لأنني خجلت أن أقول له، بأن الدولة في مدينتي، لم تتورّع عن إرسال كتيبة لاعتقالي. أسلوب اعتقالي أثبت لي أنني لا أساوي في بلدي فردة حذاء قديمة. الكتّاب، عندنا أيضاً، يُعاملون معاملة متميّزة!. أقدّم اعتذاري لأبي الذي كان يعتزّ بابنه صاحب الشهادات التي تملأ جدران البيت. كان يحمل الصحف والمجلات ليدور بها على أصدقائه ويريهم صورتي واسمي. كان هو وأمي يتّصلان بالأقرباء، حين تظهر صورتي في إحدى الندوات أو المحاضرات، ليقولا لهم: - تابعوا الشاشة على القناة الفضائية لتروا "كمال". بعد أن غدوت هنا، لاشكّ أن أمّي تنشغل بالتسبيح لفكّ أسري، ولكنَّ أبي لم يعد يحتاج إلى كتمان خيبة أمله، فقد سبقني إلى الله، وسألحق به قريباً إن لم أخرج من هنا. أقدّم اعتذاري إلى مدينتي التي أحببتها بشغف، ودعوت الآخرين كي يحافظوا عليها، ثم رأيت التجّار يدوسونها بمتاريسهم، وهي صاغرة راضخة، بفضل موظّفين، تعمي الأموال بصائرهم، فيغضّون الطرف عن كل أذى يلحق بها، ولا أتمكّن من الدفاع عنها أو عن نفسي، أمام مفتاح كان سارياً منذ قرن مما جعل الكواكبي يصف الوضع آنذاك: "ارشِ تمشِ". أقدّم اعتذاري، لكل المساكين الذين غششتهم من خلال دعواتي المتكررة للحفاظ على الصدق والأمانة والاستقامة. لم أكن أعرف أن الأمر سهل هكذا.. تملك المال بأي طريقة ممكنة.. ثم تعيد كتابة تاريخك من جديـد. أي كاتب صغير، يجعل منك بطلاً، مقابل حفنة من الدولارات.. تشتري الجاه والكرامة والاحترام.. يمكنك أن تبني مسجداً باسمك.. تحصل على الرخصة.. تأخذ أضعاف المواد اللازمة للبناء بأسعار زهيدة.. تُقدَّم لك المنح والهدايا والهبات.. تبني الجامع وتجني الأرباح.. تعمّر من فائض مال الجامع ثلاث عمارات ضخمة... تبيعها بأغلى الأسعار.. ويتبرّك الناس بك.. إنّك رجل تقي. أقدّم اعتذاري لكم أيها السادة المحترمون الذين غرّرت بهم، وأرجو أن تصدّقوني، هذه المرّة فقط، بأنني لم أكن أبيّت لكم أيّ تضليل. ولكنّني - كنت مثلكم – سيادة رئيس الفرع، أظنّ أن قيم الخير مازالت موجودة، وأن الجمال لاتستطيع قذارة العالم أن تمحوه . هل - حقّاً - العالم قذر، أم أنّ الطاعون تفشّى في مدينتنا وحدها؟. هل غدا العالم مقبرة للجمال، أم أنّ مدينتنا - وحدها - مسؤولة عن نهايات القيم؟ أم تُراه ظلماً وقع عليّ، ولم أقوَ على ردّه فانقلبت من الشيء إلى ضدّه؟ سيادة رئيس الفرع.. بعد أن اطلعتم على ملفي وتأكد لديكم أنني بريء ومظلوم، أرجو تعجيل الإفراج عني لأكمل العلاج، وإنني ممتنع عن الطعام حتى يُطلق سراحي أو أموت. ويتأكد لديكم، بعدها، أنني بريء من أي تهمة. وأعيد لأذكّركم بأنني يجب أن أكون صباح اليوم في مشفى الحميّات، لآخذ علاجي من السرطان. ملاحظة: أحتاج الى التبوّل كل ساعتين بسبب مرضي. أرجو تنبيه الحراس إلى هذا الأمر. شكراً لحسن تجاوبكم الزنزانة المنفردة رقم 11 بعد انتهائي من كتابة الأوراق كلّها، انتبهت إلى أن حفلة التعذيب اليومية قد بدأت. أسمع صوت ارتطام رأسٍ بجدار زنزانتي. أتمدد على الأرض لأنظر من فتحة أسفل الباب.