وصف الكتاب:
بقيَ التُّراث العربيُّ السَّرديُّ يُعاني من الإهمال طويلاً بحيث يفتقرُ أيُّ باحثٍ في هذا التُّراث إلى أبسط الأفكار الأوَّليَّة عن تاريخيَّتِهِ، أو عن تفحُّص أوجه العلاقة بين النُّصوص السَّرديَّة، بل تغيب أبسط المعلومات حتّى عن نُسَخِ المخطوطات السَّرديَّة وأماكن توفُّرها. ولقد آن الأوان لإعادة النَّظر في هذا التُّراث السَّرديِّ بمنظور حديث، لا يرى فيه مجرَّد خزينٍ شعبيٍّ مبتذلٍ "وضيع"، بل أن يُعيد النَّظر فيه ويكشف عن أوجه تعبيره عن عصره ومجتمعه بمعزل عن الكبرياء الزائفة التي كان يتقنَّعُ بها المعتمد "الرَّفيع" السابق. وكتاب "نُزْهَة الأَشواقِ في أَخبارِ المُتَيَّمينَ والعُشّاق" هو نموذج من هذه النَّماذج الكثيرة التي تمَّ استبعادها تحت لافتة الأدب الشَّعبيِّ "الوضيع"، لأنَّه لا يتجاوب مع معايير المعتمد الأدبيِّ "الرَّفيع" . فهو لا ينطوي مثلاً على مفردات وحشيَّة من "غريب اللُّغة"، ولا على قوالبَ لفظيَّةٍ صقيلةٍ، كما هو الحال في الشِّعر العربيِّ التَّقليديِّ، بل إنَّ الشِّعر فيه يقع في مرحلة وسطى بين البيان الهزيل أو الرَّتيب والتَّعبير الغنائيِّ التَّلقائيِّ العامِّيِّ. والسَّبب في ذلك دون شكٍّ هو أنَّه يضع الشِّعر في خدمة السِّياق السَّرديِّ لترتيب الأحداث قصصيّاً. وينكشف كتاب "نُزْهَة الأَشواقِ"، عند تحليله نقديّاً، عن طبقاتٍ تاريخيَّةٍ متعدِّدةٍ لا تخفى على نظر الناقد الحصيف. إذ تنتمي الأزمنة التاريخيَّة لجميع قصص الكتاب إلى العراق حتّى نهاية القرن الثالث الهجريِّ، ممّا يعني أنَّ كتابتها قد حصلَتْ في القرن الرابع الهجريِّ. وتشهد لغة السَّرد فيه على أنَّها كانت اللَّهجة البغداديَّة في ذلك العصر. لكنَّ الكتاب ما برحَ يتعرَّضُ لطبقاتٍ زمنيَّة أُخرى أَضافَتْ إليه مادَّة أدبيَّة من ناحيةٍ، كما هو الحال في نصوص الدُّوبيت التي أُضيفَتْ في القرن السابع الهجريِّ تقديراً، أو في مسْخِ بعض التَّسميات العراقيَّة والمظاهر اللَّهجيَّة التي لم يفهمْها النُّسّاخ المتتابعون للكتاب ممّن لا ينتمونَ إلى البيئة العراقيَّة. يمكنُنا القول، ترجيحاً لا قَطْعاً، إنَّ قِدَمَ مادَّة الكتاب تتماثل، من حيث البناءُ السَّرديُّ، في بعض أجزائها مع العناوين التي أدرجَها ابن النَّديم في الفقرتَينِ المخصَّصتَينِ لـ"أسماء العشّاق الذين عشقوا في الجاهليَّة والإسلام وأُلِّفَ في أخبارِهم كُتُبٌ"، و"أسماء العشّاقِ الذينَ تدخلُ أَحاديثُهم في السَّمَرِ" . فقد أورد ابن النَّديم فيهما بعضَ العناوين التي تتماثل محتوياتها في الأغلب مع محتويات بعض الحكايات في "نُزْهَة الأَشواقِ"؛ على سبيل المثال ذكر ابن النَّديم "كتاب الفتى الكوفيِّ مَولى مسلَمَةَ وصاحبتِهِ"، ومن المحتمل أنَّ هذه الحكاية هي حكاية "سيرة الصَّحصاح وما جرى له". وهي تشير إلى الأمير مسلمة في الجملة الافتتاحيَّة منها. لكنَّ ابن النَّديم ذكر أنَّ الحكاية كانَتْ في عصرِهِ "كتاباً"، فهل تمَّ اختصارها في كتاب "نُزْهَة الأَشواقِ"؟ وكذلك من المرجَّح أنَّ عنوان "كتاب عاشق الكفِّ" يشير إلى "حكاية الطُّفيليِّ وإبراهيم بن المهديِّ" في "نُزْهَة الأَشواقِ". أمّا "كتاب عاشق الصُّورة" فيبدو أنَّه يشير إلى "حكاية ابن الخصيب صاحب مصر وما جرى له مع جميلة بنت وزير البصرة". ومن المحتمل أنَّ "كتاب العاشق المجنون وسلم وجاريتها المخبَّلة" يشيرُ إلى حكاية مماثلة للمادَّة في "حكاية عاشق البيمارستان" أو مستشفى المجانين. وأخيراً فالأرجح أنَّ "كتاب الذَّلفاء وإخوتها والجنِّيِّ" لا يخلو من تماثل مع "حكاية الذَّلفاء ونجدَةَ". ولعلَّ "الجنِّيَّ" في "الفهرست" هو تصحيف اسم "نجدَةَ". وقد يمكن العثور ذاتَ يومٍ على بعض هذه النُّصوص، لكنْ يظلُّ من المستبعد تماماً الوقوف على تماثلات حاسمة لا تقبل الاختلاف. ويكمن السَّبب في ذلك في أنَّ من طبيعة النُّصوص السَّرديَّة في تاريخ الأدب القديم أنَّها كانت نصوصاً شفويَّة، وبقيَتْ باستمرارٍ عرضةً للتَّغيير اللُّغويِّ واللَّهجيِّ والأُسلوبيِّ، ممّا أخضعَها لطبقات متراكمة من الأزمنة التاريخيَّة المتعاقبة، كما هو الحال مع نصوص كتابنا هذا. ممّا يدلُّ على قِدَمِ الكتاب أنَّنا نجد بعض نصوصه تتطابق أو تُشرِفُ على التَّطابق مع كتبٍ من القرن الرابع الهجريِّ. فقصَّة إبراهيم بن المهديِّ موجودة في "مروج الذَّهب" للمسعوديِّ، تمثيلاً. وهناك نصوصٌ أُخرى توجد في كتبِ أدبٍ أُخرى مثل "العِقد الفريد". لكنَّنا لا نستطيع قول كلمة واحدة عن مؤلِّف الكتاب، هذا إذا كان له "مؤلِّف" أصلاً. والواقع أنَّنا عثرنا على ذكر لعنوان الكتاب في كتاب "إيضاح المكنون في الذَّيل على كشف الظُّنون" للبغداديِّ ، لكنَّه لم يذكر من الكتاب سوى عنوانِهِ الكامل "نُزْهَة الأَشواقِ في أَخبارِ المُتَيَّمينَ والعُشّاق"، بلا مؤلِّفٍ ولا موضوعٍ ولا محتوياتٍ. وهذا يقطع أنَّ البغداديَّ أو مصدره في ذكر العنوان لم يكنْ على دراية بأنَّ الكتاب كان منسوباً لمؤلِّفٍ ما.