وصف الكتاب:
هل يمكن أن نرى أمواتاً يمشون ويتنفسون ويتكلمون؟ أمواتاً يأكلون وينامون؟ دعوني أسألكم بصيغة أخرى، هل يمكن أن نموت هكذا؟ إني أخشى ذلك الموت، أريد أن أموت كما يموت الناس، وأدفن بسلام، وترحل روحي إلى الذي كوّنها، ولكن المهندس علي لم ترحل روحه، كما أن جسده مازال يتحرك بيننا بشكل مزعج، انظروا إليه، هيا انظروا، إنه يمشي ويتكلم ويتنفس وينام ويبدي تأففه طوال الوقت، ولكنه ميت. كان يحلم بأن يكون مهندساً معمارياً مختلفاً، كانت حَبيباته عبارة عن لوح خشبي يضعه على طاولة ذات سطح مائل، ومساطر طويلة «تائية» وفرجار ومنقلة ومثلثات عديدة بأحجام مختلفة وأقلام رصاص عديدة عبارة عن تدرجات حرف «بي» وحرف «أتش» ومصباح معلق سهل التوجيه، وبعد خمس سنوات أصبح مهندسا مدنيا بامتياز مع مرتبة الشرف. ولكنه الآن يمشي كل يوم حاذراً، هارباً من الغبار.. الغبار الذي يأبى إلا أن يطبق على تعرجات وانحناءات عقله، يخوض نهر الغبار الذي يصل إلى مستوى أنفه، يجاهد كي لا يختنق، يحاول رفع أنفه لتكون فوق مستوى الغبار المعشش في ذاكرته، يستنشق ويزفر بمشقة كي يخزن بعض الهواء النقي في رئتيه، يتعثر مراراً بذرّات الغبار المنتشر في رئتيه وفي نهر الطرقات. حينما ترقى قبلنا ليصبح (مهندساً أول)، أصابتكم الغيرة – مهندس أول خلال سنة واحدة! هذه أم الواسطة تشككتم في أحقيته في الترقّي، حقدتم عليه، تقعدون في مقاهي الشيشة للثرثرة، وتنفس الاحباط، والسخرية، لكنه جاهد في البحث، كَتَبَ حول مدن المستقبل والمدن السياحية والمدن الذكية، وحاز على عدة جوائز. أنظرُ إليه من نافذة شقتنا في البناية ذات الأربعة أدوار التي نسكن فيها أنا وهو، شقتنا في الدور الأول، مُطلّة على مدخل البناية، يقود سيارته إلى داخل حوش البناية، يقفل باب سيارته ببطء، يمشي بحذر كي لا يثير الغبار تحت قدميه، يقطب حاجبيه متشكيا: – غبار.. كلها الدنيا غبار.. يحضر خرطوم الماء، يرجعه مرة أخرى، يقول بصوت مسموع – الخرطوم منبع لفوضى الماء، الماء يستفز الغبار، إما أن يقضي عليه فيتحول إلى طين لازب، أو يثابره فيهرب متشبثاً بالأرجل والعيون وتجاويف الأنوف. يحضر إبريقاً بلاستيكياً، يملؤه بالماء، يسكب قليلاً منه على جسم سيارته، يحاول أن يكون دلق الماء هادئاً كي لا يوقظ الغبار، الماء يتدافع ببطء على جسم السيارة، موجة تمضي بطيئة، تفترش الرقعة المعدنية العلوية لجسم السيارة، إلا أنها تتسارع عندما تتمدد على الزجاج الأمامي والخلفي، ثم تختفي في بطنها ومؤخرتها، يدلق بعض الماء من الأبريق على خرقة يمسكها بحرص كي يوزع الماء على بقية جسم السيارة، يتساقط الماء على الأرضية المبلطة، سقوط الماء يحدث تصارعاً للقطرات التي تتقافز على طرف دشداشته وقدميه، يمتعض – غبار يا أخي غبار.. كلها الدنيا غبار. قبل بضعة أيام كنا في الساحة المفتوحة لمقهى «الزيارة»، أتيتُ به ليجلس معكم لأول مرة بعد أن مات، حتى يهدأ ويستعيد ذاكرته المتعبة، رفض تدخين الشيشة، قال: – المعسّل منبع للدخان، الدخان منبع للغبار، يتحدان، يغزوان القصبة الهوائية، يعيثان فيها فساداً.. احذروا أن يستعمركم الغبار. لكنه في ذلك اليوم بلغ به الانهيار العصبي مبلغه، وللمرة الأولى منذ موته بكى، بكى لأنه شعر بموته، موته الذي لا رجعة منه، ربما تيقّن أن موته تجاوز برزخ حياته، شعر بأن الغبار هجم عليه من الداخل، قال باكياً: – فكوا عني هذا القيد، لا أستطيع التحرك، لا أستطيع حتى رفع قدميّ، الغبار كثيف لدرجة أنه تصلب في جسمي، سدّ كافة مسامات جلدي، أشعر بأن شعر رأسي أصبح ثقيلا بفعل الغبار الملتصق به، وعيناي ثقيلتان أكاد أفقد القدرة على رفع جفني، كيف أهرب من هذا القيد، غبار. . أغرق في الغبار.. غبار.. غبار.. أنتم كلكم غبار. أجيبوني، لماذا أنتم واجمون هكذا؟ لماذا تطردون علي من فضاءاتكم الآن؟ أنسيتم من تفوق علينا في كل المواد في الجامعة! وكنتم تتبركون وتتمسحون به كي يستعطف عليكم بملخصات المواد، يا إلهي كنتم تستجدون الحصول على ملخصاته في التصميم المعماري، مواد البناء، التصميم بالحاسب الآلي، الإنشاءات، التكييف في المباني، التمديدات الكهربائية، تسليك الضوئيات والصوتيات، المساحة، الهندسة، الخرسانة، الأوزان، ترميم المباني القديمة، التربة وأنواعها وخصائصها. لماذا تنسلخون عنه الان؟ قولوا.. أجيبوا؟ تبحثون عن المناصب، أنتم أصحاب مصالح شخصية، لستم أكثر من ذلك، ما عدتم تهتمون بمصلحة الوطن. ألم تسخروا منه ومن جديته واهتمامه بالمذاكرة؟ ومن هوسه بالهندسة، أما كان أجدى بكم أن تحتفوا بعبقرية هندسية جديدة؟ كانت لديه علي المساطر التائية 45.7 سم، 76.2 سم، 91.4 سم، 106.7 سم، وعلى الرغم من أنه يمتلك نسخاً عديدة من نفس حجم المساطر إلا انه لم يمتلك يوما مسطرة 61.1 سم، وقلتم إن تلك المسطرة كانت (تنقبه) كنقب الدجاجة لأعدائها لذلك فهو لا يحبها، وعندما كان يرسم خطوطا عمودية أو مائلة بانحدار قليل أو شديد فإنه يستعمل المسطرة المتوازية الانحدار جنباً إلى جنب مع المثلث ذي الزاوية 45 أو حتى المثلث ذي الزاويتين 30 و 60، ضحكتم كثيراً أسميتموه المهندس الذي فقد ثلثه، أما الفرجار فإنه يمسك أحد طرفيه بين إبهامه وسبابته ويحرك الفرجار من اليمين إلى الشمال، لتكوين الدوائر والأقواس وأنصاف الدوائر والقباب والمظلات المسقوفة بالقراميد، لم يسلم منكم قلتم قُلِبتْ الساعة في رأس المهندس. والان تتخلون عنه، إنكم أنانيون، لم تساندوه بل خنتوه، كلكم تهربتم عندما كان يقول الحقيقة، والان لا ترغبون حتى في أضعف الأحوال السؤال عنه، تركتموه يحارب قضية تبرأتم منها من اجل ضمان انسيابية رواتبكم، وتتركونه يصارع هواجسه. كانت قضيته بناء مواقف سيارات، وقد علق في جدار مكتبه لوحة مرورية كبيرة كتب عليها، We do need Multi-Storey Car Park حاول تأصيل فكرته، لكنه فشل، أنتم جميعاً استهجنتم يومها بتلك القضية – بناء مواقف السيارات ما يحتاج كل ذا النباح علا صوته غاضباً، ككل مرة يشعر بأن قضيته لا تصل إلى أحد – ياخي انتو مالكم ما تفهموا؟ لازم تُخصّص سراديب في كل بناية متعددة الطوابق ومباني خاصة بمواقف السيارات في كل المناطق التجارية، انتو ما همّكم غير رواتبكم، شوفوا قباحة تصاميمكم، شوفوا الغبار في عقولكم. نعم اتفق معكم، علي كان يفقد طريقة الإقناع، الخبير السوداني كان أكثر تأثيرا منه لدى المدير العام، كثرت شكاويه وانتقاداته، حاول تأصيل وجهة نظره وعندما عجز عن الحصول على موافقتهم لتبني مقترحاته استقال دون أن يُكمل السن القانونية للتقاعد. اتذكر جداله الصارخ مع المدير العام، كنتُ جبانا مثلكم إذ لم أسانده في إثبات فكرته، كنا جميعاً نسمع ولا نحاول إثبات صحة ما يقول. – المخططات الجديدة لازم تخصص بها أراض لبناء مواقف متعددة الطوابق – الأمر ليس على هواك – غصباً عنّك.. لازم العمارات الصغيرة يكون فيها أقبية من دور واحد، والعمارات الكبيرة يكون فيها أقبية متعددة الطوابق تحت الأرض، وكل المناطق التجارية يكون فيها بنايات مواقف متعددة الأدوار – أولاً أنت غبي ثانياً أنت تفكر نفسك عايش في أوروبا؟ – في عقولكم غبار ياخي – الغبار معشش في عقلك أنت – انفض الغبار من عقلك لترى الأمور بوضوح.. اذهب إلى روي والغبرة والخوير لترى قبحكم. لكن المهندس علي أصبح يمشي بتؤدة لئلا يثير الغبار تحت قدميه.. يخوض هذا الغبار وحده، يجاهد كي لا يختنق، يحاول رفع أنفه لتكون فوق مستوى الغبار، يستنشق ويزفر بسرعة خاطفة كي يخزن بعض الهواء النقي في رئتيه.. يتحدث بصوت مسموع لأشخاص يراهم وحده، يصنعهم في الأثير المحيط به لكي ينفث مخزون الحديث الذي لا ينفد أبدا، محاولاً نفض الغبار المتكدس في عالمه الخفيّ.