وصف الكتاب:
لا أخفيكم أنني ارتبكت كثيرًا و فكرت مليًّا قبل أن ابدأ الكتابةَ عن رِوايةِ " كِرْكْ مُوْبَا " للأديب الروائي الكركي الدكتور عبد الهادي المدادحة ؛ فأنا أقف أمام شخصيةٍ و مدينةٍ ، شخصيةٍ بحجم الكاتب و الروائي و السياسي و الوطني الدكتور الجليل و مدينةٍ بحجم " كِرْكْ مُوْبَا " تاريخًا و حضارةً و عراقةً و موروثًا . إنها ( مملكة الكرك ) . ليست رواية ، هي وثيقةٌ تاريخيةُ بين يديّ روائي سَبَرَ غورَ السياسةِ و الثقافةِ و الأدبِ و التجذُّر للمكان ، اجتمع كل ذلك في شخصهِ و هذا ما جعل مهمتي صعبةً في الواقعِ . الحديث عن المدن قد يكون مفرحًا و محزنًا في آنٍ ؛ فَللفرحِ نشوةٌ و للحزن نشوة كذلك ، و كلاهما يصل الذروة ، و الكاتب كما أسلفت وظّف السياسة و العراقة و الموروث و لا عجب في ذلك فهو يمتلك زمام ذلك كلَّهَ و أكثر , فمنذ نعومة أظفاره ترعرع على الوطنية و التشبُّثِ بالمكان و أثناء دراسته عانى الكثير من السياسة و تقلباتها ، فصوَّر الصمود بأبهى صوره عرفت ذلك من تاريخ حياته و سيرتها للقرب منه جارًا و أخًا و صديقًا و أديبًا ، فقد كان لي شرف الحُظوة أن أكون ممن تفضَّل عليهم الكاتب و مهر لي بخط يده و بحروفٍ ثمينة إهداء هذه الرواية و قبلها روايةُ " هوامش البساط الأحمر " . و من عادتي عندما ابدأ في قراءة الرواية أن أول ما يشدني هو العنوان ، فهو نص بحد ذاته و صورة الغلاف ، و عنوان هذه الرواية هو روايةٌ أخرى يختزلها العقل في شريط يدور في الذاكرة ليملأ سنواتٍ في لحظات . و صورة الغلاف التي تجذِّر الموروث الكركي و الهُويَّةَ في اللّباس " المدرقة " ثم الإهداء الذي أحسست فيه روح الإخلاص للراحل الدكتور محمود العلاوي الصهر الذي يمثل قامةً من قامات المدينة العريقة ، لا بل معلمًا من معالمها . و كنت قد عرفت من خلال متابعاتي لكتابات الروائي كيف أنَّه استفاد من معرفة الراحل و إجادته للّغة الفرنسية و ترجمتها ، ثم انتقلت بعد ذلك الي صورة الغلاف المقابلة حيث ظهر التلاحم و التوحُّد من قبل الروائي مع الموروث المكاني و اللغوي " البصاص " و " الافرنج " الشهابية اليوم ، لم يذكرها باسمها الحديث فتعمَّد أن يذكر الاسم القديم للخلود اللفظي و لبيان مدى ارتباط الكركيّ بقريته و أرضه و مائه " صهد الشمس " و " خبز الطابون " هو زرع لبذور اللغة و الموروث اللفظي في تربة الحداثة . " كِرْكْ مُوْبَا " تسكن الشاعر و يسكن فيها ، تكبر في قلبه و روحه و يكبر فيها " توأمة فريدة " " هو و هي " و كأنه يقول لها : " أنت انا " ، فبالرغم من أن الكاتب يقطن في مدينة عمان العاصمة إلا أنه يسكن " كِرْكْ مُوْبَا " و ضَعْ مئة خطٍّ تحت " كِرْكْ مُوْبَا " فالمدلول اللفظي للكلمتين مختلف في نفس الكاتب " أقطن أو أعيش " و " أسكن " و هذا المدلول لا يخفى على أهل اللغة . إن " كِرْكْ مُوْبَا " في روح الكاتب حالة خاصة لا بل استثنائية ؛ فالحديث عن المدن مختلف خاصة إذا كانت المدينة بحجم الكرك سيدة الحضارة , انا دائمًا أقول عندما أدخلها : عذرًا سيدة التاريخ فنحن اليوم عاقّون ، و لكنَّ الكاتب أعاد للمدينة نبضها و روحَها في الرواية من خلال تمثيله لما أراد في صورة " فيلم سينمائي " بدأ به من خلال شخصية " أنجيلا " الباحثة التي تجيد العربية و " صخر " الذي يجيد الفرنسية و طريقة تعارفهما عندما كانت ترسم تخطيطًا لبرج " الظاهر بيبرس " ، فـ" صخر " مخرج سينمائي و " أنجيلا " باحثة و لاختيار اسم " صخر " مدلول لغوي فيه القوة و الصلابة التي تتمثل في الكركي و الكرك . الحب مقدس و يجب أن يكون مقدسًا ، لكنه يكون بأشكال و ألوان متعددة ، و قد استثمر الكاتب هذه القداسة في ازدواجية لا تخفى على الناقد المتمكن في شخصيتي " صخر و أنجيلا " حيث تماهت الشخصيتان مع شخصيتي " مصباح " و " قمر " و هنا ايضًا استثمر الكاتب اختلاف الديانات ، حيث كانت الديانة عائقًا بين ارتباط المحبَّينِ بالرَّغم من محاولته الجادَّة و الحقيقية في إبراز مدى التعايش و التواؤم في المجتمع من حيث عدم التفريق بينهما في سبل العيش و الحياة البريئة البسيطة و حتى في المصير و الهدف . ففي الصغر كانوا يقولون : " مصباح لقمر و قمر لمصباح " دون أن يكون في حسبانهم أو يفكروا برهةً في المستقبل و هذا تمرُّدٌ على الحبِّ و خروجه عن إطاره المألوف كما ذكر الكاتب . لكنه كان ينظر إلى أبعد من ذلك ، حيث إنَّ الكرك ليست لديانةٍ دون الأخرى ، هي لمن يقدسها و يتوحَّد فيها و معها . نحن أمام روائيٍّ و سياسيٍّ ، و ما أصعب الوقوف أمامه ! و أظنُّه قد أراد أن يختبر صبرنا و علمنا و مدى معرفتنا في تاريخ المدينة و عراقتها لا بل تاريخ المملكة " مملكة الكرك " عندما تحدث عن الروح " روح ميشع " الملك المؤابيّ ، فقد تقمصَّ شخصية " ميشع " و ابنه " شيحا " عندما تحدث عن المكان و دفاع " ميشع " المستميت عن المدينة أمام العبرانيين و استثمار شخصية " شيحا " حيث فخر أبيه به و قد طلب منه العراف أن يقدم ابنه قربانًا ، فكانت شخصية " شيحا " الجندي المقاتل و الفلاح و الحداد و الحجّار ، حيث إن " كِرْكْ مُوْبَا " ليست مجرد مدينة و عاصمة لمملكة مؤاب ، هي روح لا تُرى و لا تلمس بيد . لقد استثمر الروائي الأهمية الدينية و الاستراتيجية التي تربط " كِرْكْ مُوْبَا " بـ" القدس " ، فكل من سيطر على " القدس " لا بد له من السيطرة على " كِرْكْ مُوْبَا " ؛ فالكرك مفتاح " القدس " و موقع الكرك يؤهلها أن تكون سنجقًا كبيرًا للبطرك . لقد كان الروائي بارعًا في تصوير الصراع الداخلي لدى " قمر و مصباح " أثناء استنجادهما بالشيخ " مفلح " و مجيء الشيخ " محمد " الى مضارب الشيخ " مفلح " لاسترداد " قمر " و ضم الفتاة الى مضاربه حيث أصبحت دخيلة عنده ، و في إشارة ذكية من الكاتب أظهر موالاة الشيخ " محمد " للسلطة العثمانية فعندما تتقاطع المصالح تظهر القوة و عدم المجاملة . و قد ظهرت شخصية " برهم " أخو " قمر " شابًا يريد أن يغسل العار الذي اقترفته أخته بارتكابها خطيئة دينية في هروبها مع " مصباح " و تعقبها بعد ذلك الى الدير ، لكنه لم يفلح في مسعاه فـ" مصباح " قد كان له بالمرصاد فأوشى به الى حارس حديقة الدير . و بالرغم من أن الغريب عن الكرك لا يميز بين الأديان فيها - حتى في وقتنا الحاضر - حصل كل هذا لـ" قمر و مصباح " ، فالوثائق سجلت على أن حبًّهما كارثة ؛ لأنًّه لم يأتِ حسب تعاليم البطرك أو الشيخ . أمَّا الرسائل فكانت رواية أخرى ، ولا أخفيكم فقد أخذت مني مجهودًا كبيرًا لأتفهمها و فكِّ حلقاتها لعمق سبكها . رسائل " انجيلا " التي غادرت " الكرك " إلى " القدس " و فيها رسالتان نفحتهما روح " كِرْكْ مُوْبَا " الأولى عندما رأت صورة مريم العذراء على الجدار في منزل صخر إلى جانب الآيات القرآنية ، وهذا ما أثبته الروائي سابقًا و الأخرى الموقف في كنيسة القديس " جرجينوس " المسماة بمقام سيدنا " الخضر " . ففي الكرك يرى الإنسان أخاه الإنسان قبل أن يرى ديانته ، وأظهرت هذه الرسائل – متكئةً على موروث الروائي السياسي و النضالي الجم – نضال المرأة في الكرك وروح الكرك المتقدة التي تسعى الى الحرية و المفاجئة في أنها وجدت في الدير صندوقًا خشبيًا يحتوي على مقتنيات الراهبة " انتينولا " و بعض رسائل " مصباح " لـ" قمر" و قد ترجمتها الراهبة الى الفرنسية ، إضافة الى الشك الذي كان يساورها في الكشف عن شخصية و حقيقة الدكتور " جوناثان أزياك " رئيس البعثة ، و كيف أنه حاول إدخال قطعة فخارية في حقيبته لإثبات وجود العبرانيين في المنطقة ، وحصل أن اكتشفه الموظف بالرغم من بساطته . وقد سلَّط الروائي الضوء على هذه الحادثة في إشارة ذكية إلى الأهداف الاستعمارية لهذه الحملات العلمية المشبوهة . أما رسائل " صخر " لـ" أنجيلا " فقد بث فيها الروائي بمهارة فائقة روح المؤابي الحر روح الإباء و القوة التي يستشعرها كل عربي حر ضد الخنوع والاستسلام ، فلم يكن اختيار اسم " صخر " كبطل للرواية عند الكاتب عبثيًّا أو اعتباطيًّا ، فقد أراد منه بث روح القوة و الصلابة المستمدة من شموخ و صمود الكرك و قلعتها ، ثم حدثها عن المقاومة اللبنانية و أظن أن الكاتب قد سبر غور هذه التجربة المشرقة بشخصية المقاوم " أحمد " الذي يعرفه جيدًا مطعِّمًا ذلك ببعض الأهازيج . لقد وظف الروائي قصة " مصباح و قمر " توظيفًا سياسيًّا ، حيث ضُحِّيَ بحب شابين بريئين من أجل مصالح سياسية ، فقد اهتم الشيخ " مفلح " و الشيخ " محمد " بمصالحهما الشخصية على حساب حماية " قمر و مصباح " و قد قطعت الراهبة الطريق على " مصباح "، حيث ارسلت له أن " قمر " أصيبت بالتيفوئيد و توفيت ، و كانت نهاية " مصباح " أن استشهد في " هيَّة " الكرك دفاعًا عنها ، و ذكرت الرسائل البطلة الكركية " تيريز هلسة " فالمقاومة لا تعرف الاتجاهات ولا الأديان ، هي المعبد المقدس الذي يؤمه المصلون لغسل عار العبودية و الظلم . و قد أثبت الكاتب رسائل مصباح لقمر التي أخفتها الراهبة ، و في إضاءة مشرقة سلَّط الروائي الضوء على شخصية " قمر " و انعتاقها من خطيئتها حيث أصبحت قمر الراهبة " فروسينا " التي كانت تصلها رسائل مُعَنوَنَة باسمها – حسب ما جاء على لسان الراهبة " انتينولا " – معلمة أطفال في مدارس اللاتين في المنطقة و قد كانت الراهبة " انتينولا " قد اكتشفت إجادة " فروسينا " للقراءة . فُتِحَت طاقة الفرج لـ" قمر " ( فروسينا ) و أصبحت مشرفةً على مدارس البطريركية : فلسطين و شرق الأردن و فبرص ، و في أولى زياراتها التفقدية لمدرسة اللاتين في مدينة الزرقاء ( مدينة الجنود و العسكر ) التقت بحبها ثانيةً " قمر " حفيدة " مصباح " الطفلة المعتدة بنفسها شديدة البأس و القوة التي تسري في جسدها روح " مصباح " روح " كِرْكْ مُوْبَا " . لله درك يا كرك ! و يا لجمال ما كتبت أيها الفارس ! فارس الكلمة و فارس المقاومة . نعم ، الكلمة مقاومة ، و الكلمة حرية ، و الكلمة شرف ، و الكلمة رصاصة ، و الكلمة ,,,, لم املك إلا أن أمهر بخط يدي و بعد مقاومةٍ شديدةٍ و غلاب عندما أنهيت القراءة لمرة واحدة أن أرسم ( √ ) بقلمي . ولكن سأعيد قراءتها مراتٍ و مراتٍ لأمهر المئات من الخطوط (√ ) ( √ ) الراوي هو المقاوم المخرج هو الراوي و في شخصيته سر غامض و أظنه " صخر ". تماهٍ في الشخصيات " صخر و انجيلا " هما " مصباح و قمر " . فهل انا محقة ؟ رسمية البنوي