وصف الكتاب:
ارتفع البدر عاليا ليتوسط كبد السماء في تلك الليلة الدهماء من فصل الشتاء ليرسل أشعته على استحياء فوق تلك المنطقة من صعيد مصر، ظهر البدر جليًا تحيط به قطع السحب ثم ابتلعته السحب الرمادية، وفي وسط الظلام الذي لا ينيره سوى أشعته المتقطعة الآتية من حينٍ لآخر من خلال المساحات الخالية بين مجموعات السحب المتزاحمة، رددت السماء والطرقات صوت لصقر ما أتى من اللا مكان، فلعنت في سري انقطاع الكهرباء المتكرر في ذلك الوقت من كل يوم أثناء عودتي من العمل إلى بيتي القابع في منتصف قريتي التقليدية، شأنها شأن مثيلاتها من القرى، وكما يليق بقرية صعيدية فى جنوب البلاد أن تكون على ما هي عليه من العزلة والانفصال عن مجريات الأمور التي تجري فى شمال البلاد والعاصمة الساهرة المزدحمة التي لا تنام. صقيع الشتاء على الطريق الزراعي المقفر الخالي وحقول الذرة والقيضى التي حصدها أصحابها وتركوا خلفهم أكوام مجمعة من سيقان النبات أو كما نسميها في بلادنا البوص، كان الجميع قد حصد زرعته، أوقعوها وتركوها لتجف لتعلن بهذا انتهاء فصل الخريف وحلول فصل الشتاء. كان الطريق المؤدي إلى قريتي على جانبيه الحقول التي تم حصادها بالإضافة إلى انقطاء الكهرباء، صنعا معًا مزيجًا مرعبًا كان وقعه منفرًا على صدري على غير ما اعتدت في كل ليلة، لكن تلك الليلة كانت تنبئني بشعور منفر غريب من التوجس والترقب، كانت الليلة غريبة ومختلفة عن باقي الليالي الرتيبة فهناك أرى شيئا في الأفق!.... ظننت وقتها أن عينيّ تخدعاني، أم أن عمود الإنارة هذا بالفعل يسطع بالإضاءة وينير تلك البقعة في أسفله كما بدا لي؟! إنه العمود الوحيد المنير في وسط جميع الأعمدة الأخرى والقرية بأكملها تسبح فى ظلام دامس ومخيم على مساكنها وطرقاتها.. أمام حقل قصب خريفى زرعة مبكرة!! صارعت أيام الخريف وبقيت حتى بداية فصل الشتاء!!.