وصف الكتاب:
من بين الكتب والدراسات العربية في حقل الفلسفة السياسية، يوجد عدد قليل من الدراسات التي تسعى إلى تقديم ما هو جديد إلى المكتبة العربية، وتحرص في الوقت ذاته أن يكون هذا الجديد على قدر من الأهمية على المستوى الفكري والفلسفي من ناحية، وعلى مستوى علاقة الموضوع بهموم ومشكلات عالمنا العربي والإسلامي من ناحية أخرى، وهذا ما ينطبق على الكتاب الذي بين أيدينا. ففي عالم السياسة الواقعي يكاد يكون الكذب مرادفًا للحكم؛ فأن تحكم يعني أن تُمارِس الخداع، لكن الأخطر من ممارسة الكذب والخداع هو التسويغ الفلسفي الذي يبرر هذه الممارسات، فهل قدر السياسة أن تظل دائمًا مناخ الكذب الأمثل؟ أم من الممكن لأخلاق الواجب، وقيم الصدق أن توجه الفعل السياسي؟ وهل يمكن حقًا تبرير الكذب السياسي من المنظور الفلسفي الأخلاقي؟ أم أن «التبرير» يُعَدُّ في ذاته مجرد محاولات لإضفاء شرعية أخلاقية على اللاأخلاقي بطبيعته لأهداف أيديولوجية براجماتية؟ بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، والعلاقة بين التبرير الفلسفي النظري للكذب والخداع السياسي والتطبيق، يأخذنا كتاب د. حمدي الشريف، مدرس الفلسفة السياسية بكلية الآداب-جامعة سوهاج، والمعنون بـ«فلسفة الكذب والخداع السياسي» وصدر، مؤخرًا، عن دار رؤية للنشر، في رحلة شيّقة بين فلسفة الأخلاق والسياسة والقانون، رابطًا النظريات الفلسفية بتطبيقات عملية، والأفكار المجردة بواقعنا المعاصر، بطرح تحليلي نقدي ومقارن لأهم ما أنتجه الفكر الفلسفي الغربي حول الكذب السياسي بين التبرير والرفض. يسعى المؤلف من خلال التأصيل لمفهوم الكذب ودلالته، والمقارنة بين موقف الفلاسفة من فعل الكذب، إلى تحليل واستخلاص الحجج المختلفة، والوقوف على أسبابها وخلفياتها، ومسوغاتها ومبرراتها، بهدف نقدها وتفكيكها؛ حتى يتمكن من الوصول إلى قناعة خاصة به بترجيح أحد المواقف على الآخر، أو بالخروج بموقف فلسفي مستقل وشامل.(1) 1. علاقة الكذب بالأسطورة تُعَدُّ علاقة الكذب بالأسطورة علاقة إشكالية، وغامضة؛ وهو غموض نابع من غموض مفهوم الأسطورة نفسه؛ إذ يتداخل المفهوم مع الظواهر الدينية والفلكلورية، والرموز الحضارية والطقوس الاجتماعية، وغيرها من مجالات الدراسات الأنثروبولوجية، غير أنّ ما يرتبط بموضوع الدراسة هو التركيز على التوظيف السياسي للأساطير، وهنا نجد بإمكاننا التمييز بين نوعين من التوظيف: الأول، وجود أسطورة متوارثة عبر الأزمنة يؤمن بها شعب من الشعوب فعلًا على أنها حقيقة، والثاني تعمُّد صناعة الأساطير من أجل تحقيق أهداف أيديولوجية معينة. وحتى في النوع الأول الذي يؤمن الناس فعلًا بأسطورة من الأساطير كما لو كانت حقيقة فعلية، فلا يغيب عنا توظيف هذه الأسطورة سياسيًا؛ مثلًا عن طريق استغلال نخبة سياسية حاكمة لأسطورة موجودة بالفعل، بدلًا من صناعتها؛ فالحركة الصهيونية على سبيل المثال لم تبتدع أسطورة أرض المعاد، ولم تسهم في كتابة الأسفار الدينية التي تَعد اليهود بالأرض المقدسة، كما لم تبتكر أسطورة شعب الله المختار، لكنّها وظّفت هذه الأسطورة سياسيًا، رغم أن كثيرًا من قادة الصهيونية ومؤسسيها يمكن ألّا يكونوا من المتدينين، ومع ذلك وظفوا الأساطير التي صيغت في الماضي، لتحقيق أهداف سياسية، وقد صيغت هذه الأساطير نفسها في بداية ظهورها حتى اكتملت في حقبة السبي البابلي وما بعدها، لقد صيغت هذه الأساطير أيضًا بفعل عوامل سياسية، ولأهداف سياسية محضة. وقد أكد بعض الفلاسفة والمفكرين المعاصرين أن للأساطير أدوارًا فعالة في السياسة، حيث ذهب الفيلسوف الألماني «هانز بلومنبرج» إلى أن الأسطورة تُعَدُّ أكثر حيوية وأكثر سرعة في التأثير على الأفراد والجماعات؛ لأنّها قادرة على التغلغل إلى نفوسهم وعقولهم. ولذلك فإن النازيين -مثلًا- لم يكن باستطاعتهم أن ينجحوا في السياسة من دون إنتاج (أساطير جديدة)، وعندما تحدّث المفكرون النازيون عن (أسطورة العرق الآري)، فإنهم كانوا يحاولون، بطريقة غير شرعية، استحضار دلالة بعض الأساطير القديمة، مثلما كانوا يوظفون العلم في كثير من الأحيان بطرق ملتوية، وذلك في اتجاه تدعيم سياستهم العرقية. (2) ومن الجدير بالذكر أن عملية صناعة الأسطورة لا تتم في كل الأحيان من جانب النخبة السياسية بهدف السيطرة على المحكومين، أو بهدف ترسيخ أفكار ومعتقدات معينة، بل أحيانًا –وهذا يدل على تعقّد مفهوم الأسطورة- نجد أنّ خلق الأساطير القومية، وهي من أهم الأساطير المنتشرة في القرن العشرين، ليس مجرد تأليف من جانب بعض النخب لقصص مختلفة وتمريرها إلى الجماهير. فالواقع أن الناس العاديين قد يكونوا متعطشين لتلك الأساطير؛ فهم في حاجة إلى سماع قصص وحكايات عن ماضيهم، بحيث تصورهم بأنهم أخيار ذوو قبعات بيضاء، بمواجهة القوميات الأخرى ذوي القبعات السوداء. وبالتالي، فإنّ خلق الأساطير القومية هو فعل مدفوع من الأدنى، كما هو مدفوع كذلك من الأعلى. (3) ومن جانبه، يذهب حمدي الشريف إلى أن أفلاطون في استخدامه لفكرة الأكذوبة النبيلة كان يعتقد «أن قيام الدولة العادلة يتطلّب ترويج أكذوبة من أجل إقناع الناس بأنّهم من معادن متباينة، ومن ثم يُسلِّمون بالتفاوتات الطبقية فيما بينهم، وبأن هذه التفاوتات أمور يستلزمها النظام الطبيعي للدولة» (4). وبالتالي فحتى يمكن لأفلاطون تحقيق ذلك، فإنه لم يخترع أسطورة، بل رجع إلى أسطورة فينيقية قديمة؛ بهدف تدعيم نظريته السياسية في العدالة، وهذا ما يشير إليه المؤلف بأن أكذوبة أفلاطون كامنة في استعماله لهذه الأسطورة، بحيث تصبح الأسطورة وسيلة لإقناع الناس بنظام العدالة على النحو الذي ينظر إليه أفلاطون، مع أن الحقيقة هي أخوّة جميع البشر، رغم كل الاختلافات التي بينهم! وقد توسّع المؤلف بعمق في تحليل ونقد فكرة الأكذوبة النبيلة عند أفلاطون، وتوظيفه للأسطورة -بل وللدين عمومًا- سياسيًا، وساق آراء بعض المفكرين الذين حاولوا إلى حد ما الدفاع عن أفلاطون، واستبعاد وصفه بأنه من مروجي الكذب السياسي، مثل «روسو»، و«حنة آرندت»، اللذين ذهبا إلى اعتبار أن أفلاطون مبتدع الأكاذيب النبيلة في السياسة يقوم على تأويل غير دقيق له، وبدلًا من ذلك ذهبا إلى أنّه وظّف «الخيال» فقط، غير أنّه لم يقصد إقرار الكذب كمبدأ عام في السياسة، ولم يبحه إلا في بعض الأحيان لخداع العدو مثلًا. وقد اعترف المؤلف بوجاهة هذا التفسير، لكنه رأى أنّه غير صحيح لأسباب عدة؛ ويقف على رأسها أنّ روسو نسي -أو بالأحرى تناسى- البعد الإرادي لإحداث تزييف متعمد في أذهان الناس، وكذلك تناست آرندت أنّ أفلاطون ينظر إلى هذه الأكذوبة على أنّها وسيلة فعّالة يمكنها أن تُقنع الناس بالتفاوت الطبقي فيما بينهم، والمحافظة على النظام الهرمي الذي تقوم عليه دولته المثالية. (5) من هنا يتقاطع توظيف الدين مع توظيف الأسطورة في المجال السياسي، وكما أشار المؤلف فإنّ الأسطورة تُمثِّل عند أفلاطون عنصرًا ضروريًا لقيام العدالة، وبالتالي لجأ أفلاطون إلى أسطورة المعادن الثلاثة؛ لضمان استقرار نظام دولته المثالية.