وصف الكتاب:
«المسكين»: لست صوفيًا.. ما كتبته هو ربع ما أريد.. والسبب القارئَ واللّغة مباركٌ الإنسان الذى يستطيع أن ينفذ من الوعى المحدود إلى الوعى الإلهي ويتساءل: لماذا أغلق باب الاجتهاد بعد محمد عبده والأفغانى؟ فى ميلاده المئة احتفى الكاتب الصحفى روبير الفارس على طريقته بالأب متى المسكين، صانع النهضة الرهبانية فى الأديرة الأرثوذكسية، من خلال كتابه «المسكين»، يضم بين فصوله حوارا نشرته مجلة «ألف» جمع الأب متّى المسكين مع الدكتوره هدى وصفي، والدكتور نصر أبو زيد، والدكتور جابر عصفور. ونشر الحوار فى العدد الثانى عشر من مجلة البلاغة المقارنة «ألف» التى تصدرها الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وهو عدد خصصته اﻟﻤﺠلة الرصينة للمجاز فى العصور الوسطي. وقد وصف المحاورون أجواء الحوار بقولهم: حين توجّهنا فى صيف ١٩٩١ لعقد هذا الحوار مع الأب متّى المسكين، لم نكن نظنّ أنّ الحوار سيتشعب ويمتدّ هذا الامتداد الأفقى والرأسي، فأفقيًّا حدّثنا الأب عن تجربته الروحية فى خطّها التطوّرى منذ اختار طريق الرهبنة. ورأسيًّا ساعدنا الرجل، بكلّ السماحة والحب، على القيام برحلة داخل وعيه بدءًا من وعيه الدينى وانتهاء بوعيه بمشكلات العالم المعاصر، وفى القلب منه مصر والعالم العربي، مرورًا بآليّات الشرح والتفسير وتأويل الرموز الدينية فى الكتب المقدّسة. لقد أبدى صبرًا وتفهّمًا لما قلناه نحن أهل الظاهر والجزئى والنسبي، واستمع إلينا وتفاعل معنا طامحًا أن يصل بنا إلى عالمه، ويرتفع بأرواحنا إلى ذرى يقينه، لقد كان سعينا للحوار مع الرجل نابعًا من احترام عميق لشخصه، ومن إدراك لأهمية إنجازاته الفكرية التى توّجها بشرحه لإنجيل يوحنا فى مجلّدين كبيرين. وكانت عودتنا بعد الحوار عودة الظافرين بحصاد لم نكن نحلم به، فقامة الرجل شخصًا وإنجازًا وتواضعًا أعلى من كلّ تصوّراتنا... وتعاود «البوابة» نشر الحوار: > هدى وصفي: نريد أن تحدّثنا عمّا قمت به من شرح إنجيل يوحنا، ويدفعنا إلى هذا السؤال منهجك فى الشرح من ناحية، والتمهيد المستقلّ الذى قدّمت له للشرح فى أكثر من أربعمائة صفحة عنوانه المدخل لشرح إنجيل يوحنا؟ - متّى المسكين: فى الحقيقة، أنا حين ابتدأت الترجمة واجهت معضلتي الشرح والتفسير، فالكلام بحاجة إلى تفسير، وبعد التفسير بحاجة إلى شرح، لأننى أوضح معنى النص، وأرتبط بالنصّ ارتباط أمانة، ونقطة البداية هى ترجمة النصّ لأنه يونانى ذو ترجمة سقيمة، ولذلك أبدأ بإعادة ترجمته. بعد ذلك أبدأ التفسير على ألّا أخرج خارج النص إطلاقا، وإلا، فإنّ ذلك لا يعتبر تفسيرًا، فأيّ خروج نسميه عدم أمانة، وفى الإنجيل، لدينا ما يجعل الكاتب يكتب مثل إنجيل يوحنا، فهو يوضّح كلام المسيح ويشرحه فقبل النص هناك صاحب النص ولذلك لا بد أن أتعرّف على النص كى أقول الشرح، وتلك مرحلة ما قبل التفسير، وفيها خروج عن النصّ ولكن فى حدود صاحب النص، إذ لا بدَّ لى أن أعرف صاحب النصّ سواء كان المسيح أو يوحنا، وأن أتربّى بالمعنى الصحيح تحت رجليه وأن أعرف خلجات قلبه وفكره، وبالتالى أستطيع أن أكتب أكثر من النصّ مرات كثيرة، وأشرح النص دون أن أخرج عنه قيد شعرة. > جابر عصفور: أنت – إذًا - شارح بالمعنى التأويلي، على أساس أنّ التأويل عود على البَدء، ومن ثم فشرحُك إدراك لغاية صاحب النصّ؟ - متّى المسكين: أنا لا أئوّل، أنا آخذ التأويل من صاحب النص. > جابر عصفور: بمعنى أنك ترجع إلى الأصل؟ - متّى المسكين: أرجع إلى النص فقط، وليس إلى ما قبل النص. > نصر أبوزيد: فى القرآن ليس عندى ما قبل النص؟ > جابر عصفور: فى الإسلام ليست هناك ثنائية؟ - متّى المسكين: لا.. ليست ثنائية، ولكن أستطيع أن أسمّيه الفكر الكلّى المطلق أو الوعى الكامل، يتدرّج إلى الوعى غير المطلق المرتبط بالعقل فيتترل كلامًا، ولكن قبل الكلام وعى خارج عن الكلام، أقوى منه وأكبر منه ولكن لا يخرج عنه. > نصر أبوزيد: بالنسبة لمسألة الإلهام.. هل أنت من المتصوّفة؟ - متّى المسكين: لا.. لست صوفيًّا. > نصر أبوزيد: هناك قول شائع ومستقر مؤدّاه أنّ كلّ كلمة وكلَّ حرف فى القرآن له ظاهرٌ وباطن، وله حدٌّ وله مطلعٌ، أربعةُ مستوياتٍ فى التفسير، هل توجد هذه المستويات الأربعة فى تفسيرك؟ - متّى المسكين: أنا أتكلّم عن الباطن، فأنا أرى المسلم المتمكّن من الروح الإسلامية الذى يتقن العبادة والتقوى عنده قدرة على دخول باب الاجتهاد، وهذا مُنع، وأنا فى الحقيقة آخذ ذلك على المسلمين، فكيف يغلق باب الاجتهاد بعد محمد عبده والأفغاني. لماذا؟ حتى المسيحية حين انقسمت إلى كاثوليكية وبروتستانتية وأرثوذكسية، تركت الوعى العالى ونزلت إلى الوعى العقلي، فحين يرتفع المسلم فى باب الاجتهاد ويتلامس مع الروح، فسوف يتلامس معى بلا شكّ، ولكن حين نرتكزعلى الأصول فقط، فسيكون لك بيت ولى بيت، «لا تزورنى ولا أزورك». > جابر عصفور: هذه النقطة، لو أذنت لي، نريد أن نتوقف عندها قليلًا، الذى فهمته الآن أن هناك ما يسمّى بالروح الكلى وهذا هو المستوى الأعلى، وهناك ما يسمى بالوعى الجزئي، أى الوعى المتصل بالعالم، وهناك النص، ثم هناك أنت كقارئ، وسؤالى هو: هل يستلزم فهم النص نوعًا من الاتحاد الوجدانى بينك وبين الروح الجزئى الذى يجعلك تتصل مباشرة بالروح الكلي؟ - متّى المسكين: طبعًا.. وأنت قد شرحت. > جابر عصفور: أريد أن أسمع منك؟ - متّى المسكين: أنت أوضحت بما يكفي، أنا أعطى لأناس معرفتهم قليلة بالوعى الروحى العالي، ولكن لديهم التراث الإنساني، الإسلامى أو المسيحي، لديهم النفحة التى أعطاها لنا الله، أعطاها لآدم ولى ولك، أخذنا الوعى الكلى بالله كهبة، ولكن ﺗﻬنا بسبب خروج آدم من وجه الله وتعسّفه وتعرّجه فى العالم، فضاع منه الوعى الكلى وعاش بالوعى الجزئي، إلى أن جاء داود وسليمان الحكيم اللذان انطلقا من الوعى الروحى المحدود فى العقل إلى الوعى الكلي، وأعطانا لمحة، هذا هو ميراث البشرية. مباركٌ هو الإنسان الذى يستطيع أن ينفذ من الوعى المحدود المرتبط بالعقل الذى يتربّع على التاريخ والزمن والقياس، ينفذ من الباب الموارب إلى الوعى الإلهي، هذا يكون الإنسان الإلهى الذى يتقرب إلى الله، ويعبده ويعرفه بشكل صحيح. جابر عصفور: فى هذه الحالة، حين يكون هناك نوع من الاتحاد الوجداني، هل نستطيع القول إن شرح الإنجيل الذى كتبه الأب متّى كان مرآة الأب متّى التى انعكس عليها الوعى الكلى بطريقة تتناسب مع درجة الاتحاد الذى تمّ بين الأب متّى الشارح والنص المشروح؟ - متّى المسكين: فى الحقيقة، لا أخفى عليك، أنا لم أتجرّأ طيلة عشرين عامًا أن أقترب من إنجيل يوحنا، لشموخه ولشعورى بالعجز والقصور، ماذا حدث؟ إن هذه السنين جعلت الوعى يرتفع ويتذوّق، إلى أن بدأت أقرأ إنجيل يوحنا واكتشف أن هناك معانيَ مختلفة وجديدة، وقلت لرهبان كثيرين، كم أتمنى شرح إنجيل يوحنا ولكنّى لا أقدر، إلى أن جاء اليوم، وأحسست أن الوعى الذى أشعر به قريب من الوعى الذى كتب به يوحنا، حتّى إننى حين كان يستعصى عليَّ مفهوم، كنت أتوقّف، وأجلس صامتًا وأصلي، أريد أن أشعر به وتقريبًا أخاطبه، وأقول له: ماذا تريد أن تقول؟ إنّ الكلام واضح ومفهوم ولكنّى لا أستطيع أن أعيَه كى أكتبَه: لحظتَها، يأتى الحدس فأكتب، وهذا هو خلاصة قولي، حين تقترب من صاحب النصّ تحصل على الشرح، أنت تقول إننى مرآة، فى الحقيقة لست مرآة، أنا موصل صديق لصاحب النص، قريب منه وأحبّه. > هدى وصفي: كونك تعيش مع المؤلّف، أو صاحب النصّ كى تشرحه، هل هذا ينطبق على النصوص الإلهية فقط، أم على جميع الإبداعات؟ - متّى المسكين: إذا جعلتنى أدرس أى شاعر أو أديب ممّن يملكون الوعى العالي، فأنا أستطيع أن أشرح لك ما قاله مثلما شرحت يوحنا. هذا ميراث بشرى مشترك، وأنا عثرت عليه، وعنده مثلما عندى وربّما أكثر، ولكن ليست هناك محاولة، وأنا واثق ممّا أقول، وتستطيع ﺑﻬذا المفهوم أن تعود إلى القرآن وتشرح، فالشرح يتعلّق بصاحب النصّ، وهذا هو ما اكتشفته بالنسبة للدكتور نصر أبوزيد، فهناك النصّ والتفسير والتأويل، ولكن أين الشرح؟ > نصر أبوزيد: فى الانتقال من الظاهر إلى الباطن إلى الحد إلى المطلع، الذى هو الروح الكلي؟ - متّى المسكين: أنا أقف عند الباطن؛ لأن الخروج عنه درجة غير بشرية. نصر أبوزيد: المتصوّفة المسلمون تحدّثوا عن أربع درجات، وطلعوا إلى الرابعة؟ - متّى المسكين: لا تصدّقهم كثيرًا، وفى المبدأ السنّي، لا يؤخذ برأى المتصوّفة لأﻧﻬم تجاوزوا النص. > جابر عصفور: أتصوّر أنّك تمثّل منطقة وسطى بين التصوّف والعقلانية؟ - متّى المسكين: أنا معك، فعقلى الباطن صديق، وهو ما يسمّونه بالجوّانية، فإذا تكلّمت فى العلم آتى لك بجديد بسبب أننى أنتقل بسهولة من العقل المحدود إلى ما فوق. نصر أبوزيد: أريد أن تشرح لنا دورك كشارح للنصّ، كيف تكتب للقارئ الذى لم يخض التجربة من حيث التقوى والصلاة وغير ذلك، كيف تحيل الفهم إلى خطوات لغوية وتفسيرية؟ - متّى المسكين: هذه هى الأدوات. نصر أبوزيد: نعم، ونريد أن تحدّثنا عنها؟ - متّى المسكين: البركة فيمن علمونا من الأساتذة، طه حسين والعقّاد، كيف كانوا يوضّحون ويقسّمون المعنى، وكنت أتساءل وأنا أقرأ كيف قسّم هذا المعنى أو ذاك؟ فلا يمكن أن تتعلم شيئًا دون أن تعرف من أين جاء. فالأدوات ليست فى حاجة إلى دراسة، الأدوات تلقين، والتلقين إذا ما تقابل مع الآلة المستعدة، ساعتها أجد الكلمة تأتى بشكل عفوى ومباشر إلى درجة أننى إذا ما أتتنى علاقة لُغوية مسجوعة، أخاف من السجع لكيلا يقولَ أحدٌ إننى أسجع، فأحذف السجع، فأنا لا أقدّم سجعًا ولا جمال لغة، أنا روح فى لغة، لغتى ليس لها قيمة، لغة محدودة، ولكنّ الروح هو الذى يجعلها لغةً برّاقة.