وصف الكتاب:
كيف يمكن أن نحوّل العلاقة مع المرض، إلى حالة شعرية، لابد أن دفقاً من المشاعر الإنسانية ستفيض عبر النصوص؟ وكيف يكون الحال إن كانت الشاعرة أم، والمريض ابن؟، لابد إذاً أن تكون التجربة مختلفة تماماً، فالمشاعر هنا لا تعكس حدثاً عابراً أو مشهداً مؤثراً؛ بل هي متعلقة بفعل يومي لأم تجاه ابنها المريض، وهي ليست مجرد أم؛ بل وشاعرة كذلك، ولا شك في أننا أمام قصيدة ربما سنخفف من حمولتها الجمالية والمشهدية المتعددة إن وصفناها بالحزينة. هي تجربة أعمق من مجرد آهات صادرة من قلب الأم الشاعرة، تكمن فرادتها في أنها استطاعت أن تحول أوجاعها الشخصية ومعاناتها وألمها اليومي، إلى حالة شعرية تعانق قلب القارئ وتُخرجه من حالته العادية مع قراءة الشعر، إلى تجربة نسجت تفاصيلها خيوط من الألم والمعاناة والحزن. فلابد أن هذه القصائد تضعنا في تماسٍ مباشر مع أحاسيس الأم قبل الشاعرة، ومع نبضات الشاعرة وحروفها وهي تترجم ذلك الألم العظيم. وهذا ما فلعته الشاعرة الإماراتية عائشة الكعبي في كتابها الجديد «نصوص خالية من الغلوتين»، والكتاب تجمع فيه الكعبي بين بوح الشعر والسرد النثري، وهي أسلوبية تخيرتها بدقة لتعبر عن واقع عايشته، فهو نقش بالكلمات على جدران كراسة يوميات ومشاهدات تحمل شتى المشاعر الغريبة والمتباينة بين الألم والفرح والشرود نحو طفلها فلذة كبدها علي الذي يعاني مرض التوحد، لتحول هذه الكراسة إلى كتاب يحكي قصة عائشة وعلي، الأم والابن، فالكتابة تحمل رائحة مضمخة بشذى الأمومة وعطفها وحنانها، فلا يلتقطه إلا صاحب عاطفة حساسة ومشاعر فياضة، فكما تقول الكاتبة: «ثمة أوتار روحانية تتدرج في مواقعها حسب عمق المشاعر الغائرة في النفس البشرية، وبالنسبة لي الشعر هو ذاك الوتر الذي يضرب عميقاً في جذور مشاعري. نغمة حياتي السائدة منذ أن تم تشخيص ابني الأصغر علي، بأن لديه اضطراب التوحد، وهذه المشاعر لا يمكن دوزنتها إلا على وتر الشعر، فهو الوحيد القادر على اختزال الوجع»، إذاً فقد تخيرت الشعر والنثر كأدوات تعبيرية عما يجيش بداخلها، فيخرج ذلك الفيض الشفيف الكامل الألق. والكتاب يكشف عن أساليب متنوعة للكاتبة، فنظمها الشعري يتضمن تواقيع موسيقية فريدة تحلق بالقارئ عالياً إلى عوالم من الجمال والرقة والألق، فمفرداتها تخاطب القلوب بجمالياتها، كما أن نظمها يحمل العمق الذي يجعل القارئ في حالة من الاستغراق والتأمل في ما تطرحه النصوص التي تجمع بين قوة المخيال واستلهام الواقع، ولكن كل ذلك يقع سلساً على قلب القارئ، فالكعبي تتمتع بمقدرة تطويع اللغة، وجعل المشاهد صوراً بديعة، كما يلحظ القارئ تلك الذائقة الفذة التي تتمثل في نصوص تعبر عن ثقافة متعددة المصادر؛ الأمر الذي يشير إلى الإمكانيات الكبيرة لدى الكاتبة، ومن تلك النصوص نقرأ: «لا أَعْلمُ كم حلماً خسرْنا على وجهِ التحديدِ/ لكنّا خسرْنا أحلاماً جمة/ كنتُ أشاهدُها تتقافزُ فارّةً من رأسِك/ مكركبة تفاصيلُها في حقائبِ سفرٍ رثّةٍ/ أو في صرّةٍ معقودةٍ برأسِ عودِ ثقابٍ مشتعلٍ/ فالأحلامُ لا تقطنُ في الرؤوسِ التي لا تنامُ». ولعل هذا التنوع في كتابات الكعبي يشير كذلك إلى المواهب المتعددة التي تتمتع بها، فهي قاصة ذات أسلوب رشيق وممتع يميل إلى السهل الممتنع، وتقدم نصوصها الكثير المواضيع، وتثير العديد من الأسئلة، وهي كذلك فنانة تشكيلية ترسم بالفرشاة لوحات وبالقلم أشعاراً؛ لذلك نلاحظ كيف أن موهبة التشكيل قد أثرت بشكل كبير في نصوصها الشعرية، وربما العكس كذلك صحيح، فالملاحظة الأهم في نصوص الكعبي هي المقدرة على التصوير، وإن كانت قد اختارت في هذا الكتاب أن تصور ألمها وتجربتها القاسية مع طفلها عبر الكلمات نثراً وشعراً، وهي كذلك مترجمة والنص المترجم عندها لا يقل قيمة عن الأصل، وكل تلك المواهب تفجرت في هذا المؤلف الذي تضع فيه الكاتبة بين أيدينا مذاقاً مختلفاً للشعر والنثر، فهي يوميات واقعية، لكن للخيال كذلك حضوره الأخاذ عبر تلك التعبيرات البديعة للكاتبة، والتي تتعمق داخل النفس الإنسانية. والعمل يقدم للقارئ المعرفة والمتعة والشجن الإنساني النبيل في الوقت ذاته، ويجعله يتعايش مع يوميات الكعبي التي تتمتع بخبرة مميزة في الكتابة، فإضافة إلى مواهبها الأدبية؛ فإن الكعبي حاصلة على بكالوريوس في العلوم من جامعة الإمارات العربية المتحدة، وماجستير في علم الأجنة من جامعة أركناس في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي أيضاً عضوة في اتحاد كتاب الإمارات. =