وصف الكتاب:
تعْبُر الشاعرة ندى الحاج الدهشة في نصوصها الجديدة، وهي تمسك بأيدينا لنعبرها معًا. تقطع بنا مسافات ضوئية نحو أفق روحي يشبه في سموه المعنوي ما بلغه شعراء التصوف في قرون غابرة. على مدى مئة صفحة من القطع الوسط، لا تتوقف هذه الشاعرة الفذة عن الإقلاع بأرواحنا إلى برزخ عجيب من الصور والمعاني، يبدو لي أن تجربتها تجاوزت عملية رصف الكلمات التي يعتمدها شعراء الإيقاع. هي تهمس بصوت خفيض جداً، بما انبلج لها من رؤى خلال سفرها الروحاني العميق، وتأملاتها الخاصة في الكون الفسيح. نصوص أقرب للابتهال منها للقصيد الذي ألفناه، فقد خرجت عن الأنساق التقليدية جميعها، محلّقة بأجنحة البراق إلى فضاءات يأخذ فيها الشعر شكل الشعور العميق الذي نراه في أعماقنا في لحظات الخشوع النّادرة، والتي يصعب علينا التعبير عنها بلغة. نحن أمام نصوص ليست كنصوص الكبير أنسي الحاج العصية على فكّ ألغازها إلا لقارئ متمرّس للخارطة المناخية لشعر التجديد، ولا أمام نصوص من عمق الزمن الصوفي كتلك التي تركها لنا النفري، وابن عربي، وجلال الدين الرومي وفريد الدين العطار. تجربة ندى الحاج عصارةٌ لقراءاتها الخاصة للتجربة الشعرية المديدة لكل هؤلاء عبر أزمنتهم المختلفة، ممزوجة بتشكيلها المتفرّد للمعنى اللصيق برؤية فكرية وليدة ما عايشته وما رأته وما شعرت به وما خلُصت إليه في مستقرّ رحلة تأملها. في مجموعتها التي وصلتني مرفقة بإهداء خاص بخط يدها خلال الحجر الصحي، تكررت عبارات الصلاة والمحبة ومناجاة خالق الأكوان، وكأن ما كتب فيها هو كل ما يلزمنا لهذه الفترة العصيبة، لقد أدهشني كل نص قرأته، كونه تقارباً بشكل عجيب مع وضعنا "الكوروني" الغريب، فلا ذكر للموت والخوف والارتباك، بل تحليق عبر أشعة مضيئة إلى عوالم الطمأنينة الأبدية. لقد تساءلت بيني وبين نفسي هل يمكن للشاعر في خلوته التأملية أن يرى ما لا يراه العامة؟ وفي حالة ندى بكتابها الأخير "عابر الدهشة" (منشورات المتوسط) اقتنعت تماماً أن الشعراء أصناف، وأن شاعرتنا من ذلك الصنف الذي لا يعنيه من الشعر سوى التّمعن في الهالة الكونية الممتدة من الذات إلى ما لا نهاية ممّا خلق المولى عزّ وجلّ. مدهشة فعلاً هذه المجموعة، ليس فقط لأنها معبر طويل من الدهشة، بل لأنها تخترق ذواتنا المنيعة بالقوة النّاعمة للكلمات. "لا تدع أحداً حتى نفسك يسلبك الدهشة" امتشق الصلوات، وتظلل بالزهد، واغرف من المعرفة ما يقودك للصدق وخالص الحب. هكذا هي رسائل الحاج الشعرية، في بناء يبدو لي جديداً، سواء في مفاتيحه، أو في أقفاله أو في سطوته الجمالية على الحواس كلها. وهذا ما أعنيه بالضبط، للتعبير عن الأثر الباهر لعابر الدهشة، في إحداث فجوة كبيرة في ذواتنا تشبه انفجاراً وانعتاقاً قوياً من كل القضبان.