وصف الكتاب:
تكمن اهمية حقوق الافراد وحرياتهم في ارتباطها بكرامة الانسان وانسانيته، لذا شرعت الدول قواعد حمايتها وبدءاً من دستورها ومروراً بالقوانين التي تصدرها فضلاً عن التصديق والانضمام للاتفاقيات الدولية المتعلقة بحماية حقوق الانسان، وغني عن البيان بان التشريعات غير كافية لتأمين الحماية والتعزيز للحقوق والحريات مالم تكن هناك أجهزة وآليات عمل قادرة على تحريك النصوص القانونية الى أرض الواقع وجعلها، الى حد ما، حقيقة ملموسة. وقد تعددت هذه الاجهزة وآلياتها المعتمدة، وظل البحث مستمراً، عن استحداث ما يلبي الحاجة الى تلك الحماية، ثم شهد العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية اهتماماً خاصاً بحقوق الانسان بسبب الدمار الهائل الذي خلفته الحرب المذكورة وما ارتكب فيها من مجازر بحق البشرية كانت نتيجتها حرمان الانسان من ابسط مقومات التمتع بحقوقه وحرياته كإنسان. ولقد أسفر عن الاهتمام المذكور وفي وقت مبكر عن إنشاء منظمة الامم المتحدة، وفي عام 1946 تحديداً، دعوة المجلس الاقتصادي والاجتماعي لانشاء أجهزة محلية لحماية حقوق الانسان، وذلك إدراكاً منه لأهمية الآليات الوطنية وفعاليتها في إيقاف الانتهاكات واصلاح الضرر الناتج عنها، ثم تلت تلك الدعوة جهود متضافرة لبلورة شكل ومهام هذه المؤسسات توّجت، بما اصطلح على تسميته (مبادىء باريس) الصادرة عن ورشة العمل الدولية المعقودة في باريس عام 1991 والتي أقرتها لجنة حقوق الانسان والجمعية العامة للامم المتحدة، لتكون بذلك دستوراً لهذا النوع الجديد من المؤسسات الوطنية لحقوق الانسان. ولايخفى وجود آليات وطنية مهمة لحماية حقوق الافراد وحرياتهم، ومنها، ما يتمثل في السلطة القضائية والتي تعد سياجاً منيعاً لوقف الانتهاكات واصلاح الضرر الناتج عنها بقرارات ملزمة وواجبة التنفيذ على المسؤولين عن الانتهاك وبصرف النظر عن صفتهم، جهات حكومية أو جهات خاصة أو أفراد، لكن مما يؤخذ على هذه الآلية بأنها علاجية ولايمكن الاستفادة منها الّا بعد وقوع الانتهاك وكونها ساكنة ولايتم تحريكها للعمل الّا بناءً على شكوى قد يعزف عنها الضحايا لاسباب عديدة، فضلاً عن اجراءاتها الصعبة وما يترتب عليها من نفقات مالية. كما لايخفى دور منظمات المجتمع المدني المعنية بحماية حقوق الانسان وما تمتاز به من آليات بسيطة وغير مكلفة لكونها منظمات تطوعية غير ربحية وقدرتها على تحشيد المدافعة والمناصرة لوقف الانتهاكات وحماية الضحايا، الّا أن ما يؤخذ عليها كونها لاتمتع بالسلطة اللازمة لوقف انتهاكات السلطات الاخرى فضلاً عن تحديات التمويل واجراءات الحكومة في تقليص دورها والتي تصل في بعض الاحيان الى القمع ومنعها من تأدية دورها. من هنا جاء البحث عن آلية تستوعب ما أعترى الآليات الأخرى من تقييد أو عجز في ممارسة حماية الحقوق والحريات بفعالية كبيرة، وكان ذلك متمثلاً بهذا النوع الحديث من المؤسسات، الّا وهو المؤسسات الوطنية لحقوق الانسان، وما تمتاز به، من كونها ذات سلطة مستقلة عن سلطات الدولة الاخرى وتمتلك ولاية واسعة لحماية الحقوق والحريات من حيث الدور الوقائي والعلاجي، اي ماقبل وقوع الانتهاك ومابعده، وتقوم من اجل تأمين ذلك بمهام الحماية والتعزيز والاستشارة، ولها علاقات مع سلطات الدولة ومنظمات المجتمع المدني المحلية والدولية فضلاً عن اجهزة منظمة الامم المتحدة لضمان تحقيق اهدافها، أضف الى ذلك، سهولة وصول الافراد اليها وبساطة ومجانية الاجراءات المعتمدة لديها. لكن بكل تأكيد لا تجعل المميزات المذكورة المؤسسات الوطنية بديلاً عن القضاء أو منظمات المجتمع المدني أو الآليات الأخرى لحماية حقوق الانسان، وإنما تعد مكملة لها في سد الثغرات وصنع آلية وطنية متكاملة لمنع الانتهاك للحقوق والحريات أو الحرمان منها واصلاح الضرر في حال وقوعه. وقد اختلفت تسمية هذه المؤسسات بين مؤسسة ولجنة ومجلس ومفوضية وغيرها من المسميات، ولقد أخذ دستور جمهورية العراق لعام 2005 بتسمية المفوضية العليا لحقوق الانسان، وتأتي جدوى البحث في هذا النوع الحديث من المؤسسات لبيان أهمية هذه المؤسسات وسلطتها المطلوبة في حماية كرامة الانسان من ممارسات السلطات والجهات الأخرى، مما يتطلب البحث فيما يجب أن تكون عليه المفوضية العليا لحقوق الانسان استناداً لاساسها الدستوري والقانوني من حيث مهامها وواقع عملها وتحدياته وما يتطلبه تحقيق أهدافها.