وصف الكتاب:
إن الدولة تنفرد بتنظيم العدالة الجنائية، وذلك كأحد المظاهر الرئيسية لسيادتها وهيمنتها، وهى في سبيل ذلك إنما تتقيد بالمواءمة ما بين محاربة الجريمة من جانب، ومن جانب آخر احترام تطبيق الإجراءات الجنائية وضمان حقوق الإنسان ومنها سرعة البحث في الدعاوى الجنائية، وبقدر نجاح الدولة في تحقيق هذا التوازن بقدر ما يمكن القول بنجاح الدولة في حماية العدالة الجنائية. كما أن قانون العقوبات الآن يتجه من الناحية الموضوعية التقليدية والتي تدور حول السلوك الإجرامي بحد ذاته، والعقوبة الهادفة إلي تحقيق الردع في نفوس الأفراد، ويبدو أكثر تقبلاً لاعتناق نظرية شخصية تجعل من إصلاح الجاني وتعويض المجني عليه هدفاً أساسياً يسعي القانون الجنائي لتحقيقه. كذلك الأمر فقد تغير مسار الإجراءات والأحوال الجزائية تدريجياً من النظام التنقيبي إلي النظام الاتهامي، فتزايد دور الخصوم سواء المتهم أو النيابة العامة في إدارة الدعوى الجنائية. كما تعاظم دور المجني عليه والذي لم يعد المنسي والمهمش في الإجراءات الجنائية وإنما أصبح يحتل مكانة كبرى لا تقل أهمية عن تلك المرة لسلطة الاتهام والمتهم، ومن هنا جاءت فكرة خصخصة الدعوى الجنائية كأحد أهم محاور تحقيق العدالة الجنائية. ويبدو من زمن ليس بالقصير أن المجتمعات قد اكتشفت أن هناك مظاهر سلبية نتجت من خلال احتكار رجال القضاء للدعوى الجنائية بمختلف مراحلها: كإطالة أمد التقاضي – سواء كان ذلك في وقت التحقيق أو المحاكمة – والكلفة الاقتصادية التي تتحملها الدولة، واتجاه المشرع إلي ما يعرف بظاهرة التضخم التشريعي حيث أصبح يكافح الكثير من السلوكيات التي أفرزها تقدم المجتمع ومدنيته. التي لم تكن معرفة قدماً كجرائم زراعة الأعضاء، وغسيل الأموال، والتعدي على حقوق الملكية الفكرية، وجرائم الانترنت والوسائل الحديثة للتكنولوجيا. وهذا الوضع من شانه أن يولد آثاراً سلبية على رجال السلك القضائي نفسه، ويثقل كواهلهم عن ازدحام يوم عمليهم، وتكدس القضايا وكثرته، الأمر الذي يولد عدم قدرة رجل القضاء – سواء وكيل النيابة أو القاضي – على إمكانية العمل بنفسية وجو ملائم يهيئ له إمكانية حسن الإنتاج في العمل، وأصبح كذلك هذا المرفق بحاجة لمن ينصفه ويمده بوسائل التخفيف، ومن أجل هذه الأمور وغيرها ابتكرت العديد من التشريعات الجنائية بدائل للدعوى الجنائية(أشكال خصخصة الدعوى الجنائية) مع المحافظة على النتيجة ذاتها، بتطبيق القانون وصدور أحكام أو إنهاء الدعوى الجنائية بشكل مناسب، وهى ما تسمي فقهاً ببدائل للدعوى الجنائية. وأمام هذه المؤشرات الخطيرة كان على السياسة الجنائية أن تعيد النظر في إستراتيجيتها في مكافحة الإجرام، وبالفعل بدأت السياسة الجنائية منذ منتصف القرن الماضي تبحث عن وسائل تحقق أقصي فاعلية ممكنة في مكافحة الإجرام، وعليه اتجهت السياسة الجنائية اتجاهين: أحدهما موضوعي يتمثل في سياسة الحد من التجريم وسياسة الحد من العقاب، والآخر إجرائي يتمثل في الوسائل الممكنة في إسراع الدعوى الجنائية وبدائل إجراءات الدعوى الجنائية لمواجهة أزمة العدالة الجنائية. بيد أن هناك دراسات تجري الآن بإدارة التشريع بوزارة العدل عن بدائل إنهاء الدعوى الجنائية، وبذلك تستطيع القول بأن السياسة الجنائية تتجه نحو التحول من عدالة عقابية إلي عدالة رضائية، تقوم على مراعاة البعد الاجتماعي في المنازعات الجنائية، من مراعاة حقوق المجني عليهم، وتأهيل الجاني ليصبح فرداً صالحاً في المجتمع، وإعادة الانسجام بين أفراد المجتمع لتحقيق السلم الاجتماعي، وعلى ذلك فقد تجلت صورة أخرى للعدالة الجنائية سميت العدالة الرضائية La Justice Consensuelle، وقد تأخذ العدالة الجنائية شكلاً تفاوضياً La justice Negociee، وهذا يعني خصخصة الدعوى الجنائية. كما يجب مراعاة القول بأن تعبير خصخصة الدعوى الجنائية المقصود منه، هو إعطاء دور أكبر لأطراف الدعوى الجنائية من المتهم والمجني عليه وبمشاركة المجتمع في إنهاء الدعوى الجنائية والسيطرة على مجرياتها لمواجهة الظاهرة الإجرامية.