وصف الكتاب:
زياد حميدان؛ كاتب وسياسي فلسطيني. صدر له في هذا العام (2017) رواية بعنوان "إشراق العشق"، في طبعتها الأولى، عن مطبوعات الحلبي في الرباط بالمغرب و"دار غيداء للنشر والتوزيع" في تلاع العلي بعمان. تقع الرّواية في (102) صفحة من القطع المتوسّط، يتوزّع عليها (14) محطّة سرديّة. وتبدأ بغلاف يحمل لوحة للفنّان التشكيلي الفلسطيني "يوسف كتلو". تقوم الثّيمة "القضيّة" الرّوائيّة الرئيسيّة، لرواية "إشراق العشق"، كما رأيتها، على قضيّة فلسفية، تسبر غور النفس البشرية، وتجلياتها التي يختلط فيها المثالي مع الواقع في العلاقة بين العاشق والمعشوق. وهي معمورة بالأسئلة الصعبة التي تغوص في ثنايا النفس البشرية، وفي الطبيعة وما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا). قام "حميدان" بالتقاط شخصيات روايته من الوسط الصوفي، مستخدمًا المسميات والمراتب القادرة على الغوص في ثنايا القضية الروائية، وصولًا إلى عقدتها، عبر حبكة، وتوظيف لغويٍّ عالي المستوى، تم استحضاره من بطون الكتب وعميق المعاني. وأما البيئتان: الزمانية والمكانية، فقد جاءتا مفتوحتان على فضاء زماني غير محدود بعصر، وفضاء مكاني رحب. وأضاف إلى المبنى الروائي شخصيات واقعية، كالمرأة التي تبدو للشيخ، والمرأة التي تبدو للمريد، والصحراء والمدينة، والواد والجبل والسهل، من أرض الله الواسعة. الرواية تحتفي باللغة والتفاصيل عندما حاولت تصنيف هذه الرواية، من حيث نوعها، لم أستطع وضعها في خانة محددة من أنواع الرواية، لأنني وجدتها تتكئ على الصوفية، دون أن تكون رواية دينية، ووجدتها تتكئ على الفلسفة دون أن تكون رواية فلسفية بحتة. ما وجدته بالفعل، أنها تخرج عن المألوف الروائي، لدى الجيل المعاصر من الروايات، من حيث احتفائها باللغة العربية الفصيحة الشفافة الرقراقة، بأسمى وأجمل معانيها، وقد دار الكاتب معها حيث تدور، وهو يحافظ على دقة المعاني ونضجها وتصريفاتها الجميلة. وقد عني الكاتب بالتشكيل والترقيم عناية فائقة، للحد الذي يضعك أمام نصوص تم صياغتها وإعدادها لمنهاج مدرسيّ، حريص على تطوير قواعد اللغة العربية وإعداد الطلبة وتأهيلهم لضبط الكلمات ومخارجها بلغة خطابية رصينة. وأما التفاصيل، فلم تأت لحشو الحديث، وإطالة النص، وإنما جاءت لتغني المعنى وتكمل الصورة وتعزز جمالية المشهد لدى القارئ، كقوله: "كانت طلّة الشيخ تشي بانكشاف الحجاب عنه، فهو معتد الجسد والقامة، اختلط بياضه بسمرة الصحراء، فيما حُفرت على وجهه آثار سنوات سحيقة. ورغم ذلك كان الشعر الأبيض يجاهد ليغلب سواد شاربه" (ص: 6). ففي هذا النص جولة سرديّة للقارئ، نسجها الكاتب بجمالية التشبيه والاستعارة؛ لكي يشير إلى عمر الشيخ، وحجم الهموم التي مرّت عليه، من طفولته حتى اللحظة. مفاتيح السرديات: تفتح أبواب النص جعل "حميدان" أمام كل سرديّة من سردياته في هذه الرواية ممرًّا جميلًا مزيّنًا بعبارات وجمل ذات عمق فلسفي وفكري، يحمل الحكمة ويدرّب على الحنكة وسداد الرأي، وقد استحضرها من بطون الكتب، والتقطها من أفواه العارفين عبر العصور، تراوحت في مستوياتها بين المفهوم والواضح بلغة زماننا، والمعقّد الذي يحتاج إلى مستوى علميّ ومعرفي متقدم، كقوله، نقلًا عن عبد القادر الجيلاني: "ليس الرجل الذي يسلّم للأقدار، وإنما الرجل الذي يدفع الأقدار بالأقدار" (ص: 17). أما أثناء السرد، فقد مرّر "حميدان" الكثير من العبارات المشبعة بالنصيحة وتعزيز القيم والمثل العليا، كقول المريد: "تؤرقني الأسئلة منذ ولِدتُ" (ص: 30)، وفي ذلك وصف دقيق لحياة الفرد القائمة على السؤال منذ اللحظات الأولى لوجوده في هذا الكون. وقوله المريد أيضًا: "أترى إن ارتديت جُبّة صوف، أغدو قطْبًا عارفًا بالعشق مثلك؟" (ص: 26)، وما يعنيه ذلك من أن القشور والملابس لا تغيّر جوهر الإنسان ولا ترفع من قدره؛ فبالعلم والعمل والسهر والجد "يغدو" المرء ما يريد. النص الروائي يعيد قولبة المفاهيم يبدو للقارئ، للوهلة الأولى، أنه أمام نصوص صوفيّة تسمو بالروح والعقل والقلب إلى أعماق الميتافيزيقا، إلا أنه مع التعمق في النص، والتوقف عنده بعقل منفتح على النقد، بأبعاده المختلفة، التي تطلق العنان للتفكير بحريّة، دون تكوين حكم مسبق، نجد أن "حميدان" وظّف المفاهيم الصوفيّة الأصيلة والأصليّة، عبر التاريخ، كالشّيخ والمريد والقطْب العارف والمجذوب والكرامات... الخ، لتصميم عقدة الرواية التي تبحث في العشق بمعناه الإنساني، الذي يحتاجه الإنسان العادي في حياته اليومية، وهو بذلك يؤنسن المفهوم السماوي المطلق للعشق، الذي بقي مرتبطًا بالسمو الروحي والإيماني.. فمثلث العلاقة بين عقل الإنسان وقلبه وروحه، من التعقيد ما يجعل العلماء والفلاسفة والمفكرين يعيدون النظر فيها، بين الحين والآخر، ومن عصر إلى عصر، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فيتوقف "حميدان" عند العديد من المفاهيم والتعريفات، حول الموت والحياة، بمعنييهما الميتافيزيقيين، فيربطهما بالعشق. فالحي هو من وهب بموته عشقًا (ص: 31)؛ وفي ذلك تتجلى قيمة المرء بأثره وما يتركه للأجيال، ويعزز ذلك بقوله: حين يجتمع الثلاثة: قلبٌ وروحٌ وعقلٌ في جسدٍ بلا عشق، يكون الدرك الأسفل (ص: 32). ويستمر الجدل، في نفس السياق، حول الحق والباطل، والشك واليقين –يقول فيهما: بلا عقل أنت إن اطمأن عقلك لأحدهما دون الآخر- (ص: 35). ويستمر الحوار حول الكفر والإيمان، وعلاقتهما بالعشق. وبعد حوارات مطوّلة ومعمّقة، يفضي بنا النص الروائي إلى أبواب العشق "السبعة"، ما بين: إمرأة ورجل، وسلطان ورعيّة، ووبشر ومستقر، وفارس وقلب شجاع، عالم وعلم، وناسك وصومعة وحكيم وعقل (ص: 50). وفي جميع تلك الحالات يقول: "كن عاشقًا لا يعرف كللًا أو نكوصًا" (ص: 77)، دون أن يتوقف عند عمر معيّن: "بل يكون كالنبيذ كلّما تعتق زاد سحرًا" (ص: 78). في ذلك كلّه، نجد أن "حميدان" قد فتح الفضاء الواسع أمام العقل للتفكير الحر، وغير المقيد، في كل ما يتعلق بحياة الفرد، وينظم علاقاته الواسعة مع محيطه الاجتماعي والطبيعي، بأبعادها الروحية والنفسية والمادية. الأمر الذي يجعل القارئ يتمركز داخل النص، ليس متلقيًا وحسب، وإنما يكون في حالة تحفز فكري ونفسي أمام الأسئلة الحوارية المطروحة، محاولًا أن يكون الثالث بين المتحاوريْن، لا سيما وأن هناك تكثيفًا في السرد، يتطلب تفكيك الغامض وتيسير فهمه. وفي ذلك تتجلى حالة التفاعل المطلوبة بين القارئ والنص؛ وهي أسمى ما يسعى إليه الكاتب. كلمة أخيرة، تشكل هذه الرواية محاولة جادّة لتحرير موضوع العشق من الارتباط بزمن ومكان محدديْن، وتحريره من المقدّس المطلق؛ بجعله ممارسة إنسانية يوميّة، وغير مقتصر على الخصوص أو "خصوص الخصوص". ولا يمكنني مغادرة هذه القراءة قبل الإشارة إلى أن هذه الرواية ما كانت لتكون بين أيدينا كنص روائي، لولا أن الكاتب أجهد نفسه بالبحث والتنقيب، والقراءة المتمعنة للفكر الصوفي والفلسفة وعلم الاجتماع، وفي معاجم اللغة. وأما مستوى النص، فيحتاج إلى قارئ عالي الثقافة والمعرفة، قادر على أن يكوِّن رأيًا فيما يقرأ. الآن، وبعد أن أخذت مكانها في رفوف المكتبات، أصبح المطلوب من الروائي "زياد حميدان" البناء عليها، وتطوير نصوص روائية تناقش المزيد من الأسئلة، التي تحفّز العقل البشري على التفكير في عالمه بحرية، ودون قيود و"تابوهات" تحد من إمكانية الوصول إلى الحقائق التي نحتاج التعرف إليها وفهمها واستيعابها.