وصف الكتاب:
مُذ صدر كتاب (تاريخ النقد الأدبي عند العرب من العصر الجاهلي إلى القرن الرابع)، والحديث عن النقد العربي القديم لا يكاد ينقطع، فقد أخذت أجيالُ الباحثين على عاتقها الخوض في قضاياه، وتحوّلاته، وأبرز أعلامه، وكان الكتاب في الأصل مجموعة من المحاضرات التي ألقاها: (طه أحمد إبراهيم ت1935)- رحمه الله- على طلبة قسم اللغة العربيّة في كليّة آداب القاهرة، ثمّ جُمعت ونُشرت كتابا بعناية دالّة من زملائه وطلّابه. أمّا حال النقد العربي قبل أن يظهر الكتاب فيُذكرُ مقرونا بالحديث عن: المناظرات، والحلقات الجامعة، ومجالس الخلفاء والأمراء، وكتب الأمالي، وبعد صدوره فُتحت آفاق التأليف للباحثين الكاشفين عن البُنى التاريخيّة المولّدة للخطاب النقدي، وقد هُيّء لهؤلاء أن يخوضوا في التاريخ معكوسا على حياة الأدب، ثم قدّر لباحثين آخرين فيما بعد أنْ دقّقوا في طبيعة (النصّ) النقديّ القديم من حيث دلالته، ومقدار إفادته من قيم الحضارة الجديدة، والذوق، وثقافة العصر، والأفكار الوافدة. انقسم الباحثون، والنقاد، والمفكرون المعاصرون إزاء طبيعة النقد العربي، وتأريخه، ومقولاته، وأعلامه، ومتنه، ومظاهره قسمين: الأوّل: ناقد صريح في حكمه على طبيعة النقد وهو يرى أنّ العرب لم يكن لها نقدٌ بالمعنى الدقيق للمصطلح، إنّما كانت لديها مجموعة من الملاحظات اليسيرة، والانطباعات الخالية من التعليل، والقضايا اللغويّة المكرّرة في أغلب المتون. الآخر: ناقد رأى أنّ التراث النقديّ العربيّ القديم لمّا تزل الكثير من نصوصه بحاجة ماسّة الى قراءة واعية تأخذ بنظر الاعتبار أهميّة التراث نفسه، وضرورة أن يُفكّك على وفق منهجيّة تبتعد عن التقويل، والتأويل المغرض، والتحامل الذي يهدف إلى إسقاط إشكالات الحاضر على إنجازات الماضي، بمعنى أنّ ناقد التراث يجب أن يتحلى بالموضوعيّة، وعدم الانحياز إلى الماضي، أو الانجرار نحو المقولات النقديّة المعاصرة الرافضة لكلّ مدونات التراث، فليس التراث مجرّد مخطوطات، وصروح مهدّمة، وإرث تتناقله الأفواه، بل هو وجودٌ تدعمه الحقائق، وتؤكّده فاعليّة الأنساق الثقافيّة الفاعلة فيه، تلك التي تمسّ -اليوم- جزءاً من وعينا النقديّ المعاصر، مع الاعتراف بوجود ركاكة، وتكرار مملّ في مفاصل كثيرة من نصوصه. وهكذا وُجد النقد القديم وهو يعيش بين نظرتين مختلفتين أدرك الناقد الثاني فيهما الطبيعة التراكميّة لنشأة النقد، وتحوّلاته في العصور المختلفة، فضلا عن قضاياه التي تجاوزت: (الطبع والصنعة) و(اللفظ والمعنى) و(السرقات) و(الصدق الفني) و(الذوق) إلى (صراع) النقد نفسه وهو يحتكم إلى قضايا (القديم والجديد) و(إشكالات الأدب والمجتمع)، وعند الإشكالات الأخيرة أقفُ قليلا لأقول: إنّ عناية النقد العربي الذي اتجه نحو الخطاب الأدبي ذي المنظور الاجتماعيّ كانت محدودة إزاء الخطابات الأخرى الراصدة، ولاسيّما خطاب البلاغة الذي صنع له مركزيّة لا تدانيها طبيعة الأنساق الفاعلة جميعها، من هنا شحّت اسهامات النقاد العرب المعاصرين الراصدة للخطاب النقدي القديم ذي المعالجات الاجتماعيّة إلا من اسهامة (هنا)، واسهامة (هناك) جُمعت فيما بينها لتشكّل خطابا راصدا لخطاب قديم. حاول (د. خالد علي ياس) في كتابه (ادراك النصّ: مقاربة في سوسيولوجيّة النقد العربي القديم) العودة إلى تراثين: قديم وجديد، وقد تبنّى آليّات (نقد النقد) وهو يرصد القديم بعين متمكّنة، والجديد بعين ناقدة، وهمّه تفكيك منظومات القول النقدي للكشف عن جماليّات الفكر التي هيمنت على جزء من الذاكرة النقديّة العربيّة القديمة, لذا فقد توصّل النّاقد إلى نتائج تقترب من الملموس، وهو يكشف عن غياب (المنهج) عند الناقد القديم ذلك الذي أدّى إلى حصول إرباك حال دون إدراك حقائق الخطاب الشعري، لكنّ النتيجة عند الناقد نفسه لم تكن مثبّطة لآمال عزيمته، فقد استعان بالخطاب النقدي المعاصر الراصد للوعي الاجتماعي الخاص بالنقّاد القدامى، ووقف عند نقاط الضعف، والقوّة التي وسمت خطاباتهم، وقد خرج بنتائج قرّبت صورة الماضي إلى الحاضر كثيرا. اعتمد (د.خالد علي ياس) في تأليف كتابه منهجا سوسيولوجيّا معاصرا حاول من خلاله تقليب المتراكم النّقدي المعرفي في المتون القديمة متتبّعا بدقّة تحوّلاته الشكليّة، والمضمونيّة التي شملت (الناقد) و(النصّ) معا مبتدئا من (النّقد البيئي)، مارّا بـ(النّقد الأيديولوجي)، ومنتهيا بـ(نقد المحاكاة)، وقد استعان بجملة من المقولات، والنظريات الحديثة التي جعلت الكتاب يسيح في (عالم النقد)، و(نقد النقد) الذي ينفتح اليوم على نوافد المغايرة التي اتّجهت به نحو القارئ آخذة إياه إلى بدائل معرفيّة جديدة.