وصف الكتاب:
لازم فعل التّرحال في خصوصيته الجوهريّة وكينونته المنداحة الإنسان منذ أن دب دبيبه على هذه الأرض بشِقوَة بَلَغَت مَداها بين المكاره وسواها، حيث تعددت في الترحال الأسباب والمآرب، فتوالت مقاصد البشر من كل حدب مع الشيبة والشباب والركاب والمواكب بين الانتفاع والاكتشاف والتواصل وتقصي العجائب والغرائب وأخذ التجارِب…الخ.مما يغني الآفاق المعرفية، ويطرح حالة من التبادل المثمر والبنّاء. فكانت أهمية الرحلة في كونها تمثل مظهراً من مظاهر الحضارة. وقد كان للعرب في الجاهلية رحلاتهم التجارية، فكانت رحلة الشّتاء والصّيف، وهاتان الرحلتان هما رحلتا تجارة ومِيرةٍ كانت قريش تجهزهما في هذين الفصلين كلّ سنة، أولاهما شتاء إلى بلاد اليمن يبلغون بها بلاد حمير، وأخراهما صيفًا إلى الشام يبلغون بها مدينة بصرى من بلاد الشام. حيث احتلت الرحلة المرتبة الثالثة بعد بكاء الأطلال والنسيب، .فكانت الرحلة من ذخائر العرب فيها جذوة ونخوة كل رحّال لبيب. وعندما بزغ فجر الإسلام كان بمثابة منعطف في تاريخ العرب، فبالإضافة إلى السّفر والتّرحال للمتاجرة وللتزود بالعلم أخذ الرحالة المسلمون يجوبون مختلف أقطار المعمورة بعد أن قامت في البلاد العربية دعوة دينية بشّر بها سيد الخلق، إذ استطاع أن يجتذب العرب إليه، وأن يجمع شملهم.فزرع فيهم حبّ العلم ومجالسه والتقوت بالنّسمات الإيمانية، فلم يعق الرحّالة عن مقاصدهم كثرة العناء والنصَب لبلوغ الأرب سواء عز مال أو قل زاد، فتربصوا على كل جبل ووادٍ بزينة التقى والرشاد لبلوغ السداد، ولنقل حقائق الذات والحياة والوجود بلا بخس ولا كذب متوخّين سنّة الحفّاظ في الأدب حذرين السهو والتصحيف قبل سرد وسبك الجنى في الكُتب الفريدة المفيدة كالدرّة النضيدة الرشيدة للمستفيد المجيد.فقد جبل الرحالة على أن يتجاوزوا حيّزهم المكاني ومرجعيتهم الفكرية وتقوقعهم كانشطار فكري إلى آفاق رحبة تنبجس من فعل التثاقف والتّواصل الثّقافي والحضاري مع الآخر في أكثر من بعد ممكن، ومحاولة اكتشاف كنه الذات والبيئة حتى يتسنى لهم فهم وهبش أبجديات الحياة الآدمية بشكل يسمح للإنسان بتطويع قدراته وأساليبه وذلك للتّأقلم مع متطلباتها. ومرّت الرّحلة على حال وحال حتى تضوّعت كظاهرة في المجتمع العربي، حيث احتفى بها القلم فخطّ على تمائمها دربا ونهجا وفنّا تولد من تأثير بواعث مختلفة للتّرحال، إذ يبرز في مقدمتها الباعث العقدي أي أداء فريضة الحج، وقد اتّخذت الرحلة أشكالا أخرى كالانتجاع في طلب العلم من أهل الدّراية وممن ناطق الدّهر وتقلباته وأجال بصر الفكر في حوادثه ذوات الشّأن وتبينها في المصنفات السخيّة الباذلة الغرة لتكون للناس كسراج للفكر والمعرفة لا يخلو منها باب للنصح والتوجيه وحس للطريف الشيق المُشوقِ، وعلى نحو يحقق المتعتين: الجمالية والعلمية، إذ وهجت الرّحلة بأنوارها الآفاق المعرفية، فحوت بين طياتها قبسا من نفحات المجالس العلميّة، وطَرْقاً للمعالم الدينيّة الصّوفيّة، وأطيافا من العادات البشرية، وحيثيّات من الأجواء السياسية ورسومات للحدود الجغرافية، وقطوفات لما حملته القوافل التّجارية…الخ. وعليه فلقد حفل تراثنا الأدبي في عصوره الأولى بما يثبت رجاحة وحصافة وفصاحة الضّرب اللّغوي، وتفوق العقل العربي في مجال الأدب بشقّيه الشّعري والنثري، فقد شهد النثر العربي تقلبات کثيرة تجلت في مختلف الأساليب والفنون وخلف نتاجات أدبية قيّمة، إلا أن من يتقفى نتاجات الأقدمين ومؤلّفاتهم نظما ونثرا يري بأنهم أحاطوا الشعر بهالة من القدسية كهوس تأجج في أفق الصرح الوجداني الذي تؤطره النغمية؛ لكن ذلك لم يمنع على هامش الحركية الإبداعية من تأصل فنون أخرى كفن الرّحلة، إذ أنهم عنوا به وحلقوا به إلى أرجاء رحبة وسمته بالرقي حتى أضحى كمعلم يشع بأطياف الكنه المعرفي والعلمي والزخرف الثقافي والحضاري العتيق، حيث كان لتلك الرّحلات بين ظهراني الإنسانية شأنها الأدبي فضلاً عن مقاصدها الأخرى التي جعلتها تاج أصل، و لواء فصل، ومنابر وصل، ومقامات فضل, ومشاهد حفل, يتخير لها الكلام ليبلغ الأنام، ويشحذ الأذهان والأفهام, فتستجزل فيها المعاني بغية رواء السائل المتعرف المعتكف، وكلها رحلات هدفها الظاهر أداء الحج، غير أن الرحالة غالباً ما يجد في السفر والترحال فرصة للإبداع والاكتشاف والتحرر! فيتحول في غمار ذلك إلى أداء شعيرة أخرى في عبوره الأدبي والتّاريخي والجغرافي… الذي لا يخلو من حكايات وطرائف وعِبَر تتواشج في بوتقة واحدة تروي القعيد الحريص على غزارة علمه وبعد غوره وعلو كعبه واتساع شعاع مناره بين رياض العلم في بقاع الأرض، خصوصاً في المشرق وتحديدا بمصر، والإسكندرية والقاهرة…، باعتبارها محطّات إستراتيجيّة متعدّدة المنافع تختزن من طوايا المفاجآت ما يُليِّنُ النفس، ويوهّج قبس الدّرس في اختراق المسافات، وتلقّف العادات، واختصار الزّمن، وتكثيف المشاهدات، وتخصيب التصورات للتأثير في النفوس بروعة الأسلوب، وسحر البيان من غير إقذاع وإقراع، حيث تبتل السطور بالمعاني الأخلاقية الرفيعة، والآداب السلوكية القويمة بلآلئ إيمانية، وتسبيحات روحية لرفع صروح المدنية بالمضامين الحية. لقد أضحت مُشاهداتهم، وأوصافهم المنبجسة من الجوهري السارح، والعابر الفاتر كفسيفساء جميلة للتعايش، والتّواصل الثّقافي، إذ اندغمت وتناغمت أطرها المعنويّة والرّوحية والماديّة في محيط اجتماعيّ، حيث رسمت ملامح الحياة الإجتماعية، والقبلية والإقتصادية…الخ. تلك التي تشكل مراجعا أساسيّة للمؤرخ، والأدبيّة للكتابة، والتخيل، والمقارنة انطلاقاً مما يُولّده ذلك الإنبهار، والشّغف بالحياة، والمجتمع، والحضارة العربيّة، ومعالمها الرّوحية، والتّاريخية، والإجتماعيّة…، ما حقق صفحة للتثاقف والتفاعل، والحوار في أبهى صورها الخلاّقة، بين ثقافتين أو أكثر، مغربية وأندلسية ومشرقية…، وبالأخصّ ما نقف عليه في الرّحلات الحجازية التي تغطي نصوصها عشرات القرون تلك التي تنوب عن القرون السّابقة التي ضاعت منا نصوصها أو غلبت معانيها الرحالين في أسفارهم العتيقة العنيفة، فلم يكتبوها؛ كما تنوب عن ملايين الحجاج والسّياح الزائرين لمدينتي الإسكندرية، والقاهرة…عبر كل القرون السّالفة، إنها تمثيلات فيها من الصّدق، والعفويّة بروح الإعجاب، والنقد وحس التثاقف. إنها التاريخ الفعلي للصِّلات الوطيدة، على مرّ التاريخ، بين المغرب والمشرق تلك التي شكلت صورة مشرقة وجسراً للعبور إلى الروح، والذات، ومعالم الهويّة، والعروبة. وعليه يعتبر فن الرّحلات من الفنون الأدبيّة القشيبة التي عني بها العرب قديما وحديثا، فلقد أفلح الرّحالة المغامرون بقريحتهم الفريدة المتوقدة في تصوير الحياة، وكنهها في غير تحرج ولا إسراف، فدوّنوها كرحلة تستنفذ إلى نتفٍ من الأخبار، وصداها ومن خبايا الأشياء، وخفاياها بين الفيافي، وظلمتها، والأمصار، وَأترابها، وسَهْلِهَا، وعَذْبِهَا، وسَبَخِهَا والمدن وأهلها، وطباعهم وحالها، والنظم وقوانينها، والمذاهب ورائجها، فكانوا مغرمين بعجائبها، ومولعين بغرائبها، ومرابطين على ثغورها، وذائدين عن حياضها، فكانت مدوّناتهم شهادة تاريخيّة على زواجر الدّهر المخبوء في قضاياها، وبين ثناياها بما رصّعت الرحلة من النباهةُ، والنزاههْ، والوجاهة كنبع سخي، إذ اتسعت آفاق ارتسامها في استيعاب نظائرها، وتدبر سياقها الخاص في تشريقها وتغريبها بين سعة الأرجاء وأحواض الظلماء وخبط العشواء واللّحظات المأزومة بين نواصي الجفوة والقسوة، فأضاءت أنجم الترحال بأنوارها أهل الأرض أقصاها وأدناها، فجاء الوصف عمادها كَأَنَّها الدُرُّ تَمثيلاً وَتَشبيها والأخبار أساسها والآثار نقرها لصنع الحضارة ونقلها، فكانت قصيدة استمالة وجدانية بقضاياها ونوادرها وذخائرها من طي المجهول والموجود في تشويقها وإثارتها وطرائفها، إن كان ينقصها الوزن والقافية، فلا ينقصها رحب مدى الإحساس والصدق، مما يبرز اقتدار كتابها وتنوع منابعها الجمة، حيث تتكشف إشاراتها ورموزها بأنوار الوفاق من كل مورد ومن كل تَجْرِبَةٍ اسْتَفَادَهَا الرحال كشاهد عيان يرسي البنيان بالبرهان ويدرأ الأوهام… لَهُ في كل جولة سهم مُصِيب وحذق عَجِيب بما رأى في القطان والبلدان بأوضح البيان. فأصرف بذلك الرحالة في العناية بالرحلة حبا وبغضا، وإقبالا وإعراضا، حيث يمتد الأفق بعيدا، وإلى حقائق أسمى. ولعلنا نصيب كنه الحقيقة إذا قلنا بأن المدونات الرحلية تجاوزت أطياف الأدبية إلى ضروب غير أدبية يبرز فيها المنحى التاريخي والاجتماعي والجغرافي والإثنوغرافي… في قالب تنصهر فيه معالم الأدبية مع المعالم الفكرية والمعرفية.حيث تتنوع المعطيات والمواد بتنوع الدوافع والأغراض بما يكون ويقصد صاحب الرحلة.مما جعل أدب الرحلة غنى وافرا وأصلا سخيا، فهو كنز فياض لا يزال في حاجة إلى سبر أغواره التي لم تُفَضْ بعد وحسن قراءته وتوجهه إلى تحقيق الإفادة المطلوبة والغاية المأمولة. إذ يمثل وبحق ذلك الفكر الغزير والدراية الواسعة والفهم السليم والتأويل السديد والنظر الثاقب والاستنتاج الدقيق المحق عند المتقدمين سواء أكان ذلك بالتصريح أو التوهج الضمني القاسي الجافي أو الساذج الساخط ! فكانت الرحلة بقالبها كنادرة الدَّهْر وفريد العصر. وكما هو معلوم أن أي باحث يطمح في ميدان ما إلى كسب رهان وتحقيق ثلّة من المقاصد التي يضعها نصب عينيه، وهو يقارب موضوعه، حيث تنهض طائفة من المساءلات لا بدّ من الإجابة عنها إن أراد لمبتغاه أن يحقق أهدافه وفق ما ينبغي أن تكون.وتتقاسم هذه المساءلات أفكارٌ عديدة تتعلق بأسباب اختيار البحث، والجهود السابقة في الميدان المبحوث فيه، والخطة التي قرّ بها لمعالجة مادته، والمنهج الذي مكَّنه من مقاربة موضوعاته، والإجراءات النقدية وسوى ذلك. وليس من قبيل المبالغة قولنا: إنَّ كلمات مختصرات حول كل مسألة من المسائل السابقة ضرورة ملحة ذات ثمرات بيِّنات على كل من الباحث والمتلقي والبحث، إذ ستكشف رؤى الباحث، ومقاصده، ووعيه ومدى معرفته مبحثّه. وعليه فإن اتخاذ الرحلة ميداناً للقراءة والبحث يعود إلى أن هذا الفن أحد الأجناس التي برزت منذ القديم، ويعود مثل هذا الحضور لفن الرحلة إلى أسباب وافرة منها ما يتعلق بطبيعة هذا الفن العتيق الذي يزداد خصوبة واتساعا، والوظائف التي اضطلع بها؛ نظراً لخصوصيته السردية ومقدرته على رصد المتغيرات التي تحدث والتقلّبات، وتجسيد الهموم الحياتية للإنسان الذي يعاني كثيراً.فقد استجابت طبيعة الرحلة لإحداثات حركة المجتمع العربي، فواكبت مجمل التغييرات الإنسانية، والاجتماعية والذاتية…وعايشت سيرورة حياته ولا سيّما أن مرحلة نضوجها وازدهارها تواشجت مع أحداث كثيرة ومتنوعة جرت في المناطق العربية، كانت خلالها الرحلة خير سفير للتعبير عما يحدث.فلا يعدّ اشتطاطا عن سمت الحقيقة إذا قلنا بأنّ المدونات الرحلية، في مجملها قطوف من الأحداث التي جرت، بما يتعلق بها من مقدمات وظروف وغايات، لا يمكن أن يُنظر إليها بعين العادة؛ من كونها حملت نتوءات جوهرية زخمة من عين الوجود، الذي انطوت فيه كل الأسرار. وعليه حري بنا العناية بتراثنا الأدبي العربي الإسلامي؛ لأنه جزء من ثقافة الأمة العربية، وإن كانت الحقيقة الواقعة وجود براثين التهميش والإهمال.فالرحلات أهلة في تدرّج كمالاتها.وإذا كان الأمر هكذا، فإن لكل حادثة من حوادث الرحلة، قراءة خاصة لمن كان قارئا. حيث يمكن اعتبار الرحلة وثيقة نفسية؛ وذلك لانطوائها على كمونات نفسانية تتدلى منها معالم الطبع الإنساني المتقولب من الطابع الفردي ضمن الوجود الجمعي. ومهما يكن الشأن فنحن في ذُرى هذا الكتاب، ننطلق من رؤية مرنة تعترف بفضل المتقدمين ولا تغمط فضلهم الذي أشع في الفكر بعرى عقدية ووشائج ثقافية كرسالة مجد خالدة يستشعر فيها المتلقي معالم الحياة. حيث لم نغفل عن العناية بالرحلة الروحية الصوفية تلك التي وجدناها عالما فريدا يتأصل فيه رقي الأرواح العابدة المؤمنة رغم عدم تحقق السفر كفعل حقيقي. وعليه يحمل هذا الكتاب فذلكة مقتضبة يتضح منها مدى ما يمكن أن نستفيده من بعث تراثنا العربي الإسلامي في مختلف مظاهره ومعطياته الإيجابية، وهو بعث كفيل بالإسهام في دعم تاريخ العروبة والإسلام، وربط حاضر الأمة بماضيها برؤية تعمق الوعي بالهوية حتى لا تبلى على تطاول العصور. ونروم من كلّ ذلك إلى دحر سدول التهميش المسلط على فنّ الرحلة سواء ما تجسد منه بالسفر الفعلي أو السفر الروحي. ومن باب إحياء التراث العريق من عقاله أشبه بانبعاث تموزي متيقِّنين بأنّه معين دافق غنيّ بأصالته وخصبه فرحنا نلملم شظايا أدبيات غابرة تمنحنا فرصة انتقالات متلونة، سريعة إلى كل رحلة يومض فيها شعاع الترف الفكري.فالبحث في الحفريات الرحلية والجواهر المنسية المتنوعة بحث طريف ورحلة ممتعة إلى الماضي وأقاصي الجغرافيا أين تتلألأ عصارة قرون وخلاصة عقول وشهادة شهود وقضية وجود ومرآة حضارة ولسان دين يأبى الله إلا أن يتم نوره، ولو كره الكارهون. وهكذا يتناول هذا الكتاب، بأسلوب مبتكر وبلغة راقية أعلام فن الرحلة وتجلي جمال التصوير الرحلي وبهاءه في مستبطنات بطون المخطوطات والمراجع، مما قد يعلي حسنه ورواءه تحت شمس الأدب، من خلال البحث الحثيث، وطرح موضوعات متنوعة تقع تحت خيمة ثقافية، إذ تمثل هاته الموضوعات القيمة الأدبية والفكرية للمدونات الرحلية التي حوت بين طياتها العديد من مظاهر الحياة في أكثر من بعد. والتي تُقدِّم نفسها باعتبارها مخبوء يتفتّح باستمرار لا عالما عصيا عن الإرضاخ. ويأتي هذا العمل ليتبيّن ويترصّد كتب الرحلات كسجل اعتراف للخدمات الجليلة التي قدمها الرحالة العرب للتراث الأدبي العربي، فالتراث أمانة في أعناقنا والنهوض به من مسؤولياتنا المشتركة؛ لأنه خطوة حضارية تمتد بها أواصر التواصل الثقافي مع الهوية والانتماء؛ لذا يأتي هذا الكتاب بميزته ومزيّته المزدوجة ؛يرسخ في القارئ معالم ثقافية وهّاجة بيد أنّها منطمسة ومخبوءة ومتوارية في عالم النّسيان فضلا على أنه يحث الباث على التوسع في ثقافته الأدبية من زوايا عديدة عبر النفاذ إلى أعماق هذا الركام الأدبي الحضاري في سبيل المتح واستلهام تجارب الماضي العتيق التي انتقشت في ذاكرة الأدب واستقرت في حافظته كشعلة دائمة الاتقاد والبريق لا يخبو نيرها ويفتر، وبذلك تتحقق غاية سامية مثلى من غايات التأليف بهذا الضرب الجامع بين الحسنين.حتى يكون فضيلة من فضائل البحث الرصين الذي يجلي الحقائق ويبسطها أمام القارئ، لتكون مصدرا مشعا للمعرفة الموثقة ومرجعا للعلم النافع.بيد أنّ ما هو عظيم الأهمّية هو أنّ الاستناد على منهجية نقدية تصبو إلى الموضوعية وتنأى عن الذّاتية، ومثالبها قد خلَّصنا من ربقة إشكاليات كثيرة، إذ حاولنا أن نكون بعيدين عن المبالغة قريبين من الإنصاف.كأن نضع الحفريات الرحلية موقع النقد والمساءلة بتبين دوافعها والتعرف على ملابساتها وتوضيح ملامحها ووضعها في مكانها!. وتبقى الدراسة شأنها شأن كل دراسة لن تكون بمنأى عن الإشكاليات والعثرات التي هي قدر إنساني يحاول الباحث أن يتخلص منه بالعمل والمثابرة والإخلاص، وهو ما سعينا إليه في كل أرجاء البحث، مستعينين بالله تعالى والإرشادات السّديدة وملاحظات الأصدقاء والأساتذة الذين أقدم لهم باقة شكر لا حدود لها وكل من اطلع على البحث لهم جميعاً الشكر الذي لا يُحدُّ والامتنان الذي لا ينفدُ. أخيراً، أرجو أن يكون هذا الكتاب إضافة جديدة في ميدان البحث العلمي والتعريف بالتراث العربي، و لبنة صالحة في الجهود النقدية التي تبذل لتناول الأدب العربي القديم والحديث على أمل أن أضع لبنة أخرى عبر الكتاب الثاني الذي سيتم تخصيصه للحديث عن فن المقامة. والله نسأل حسن التوفيق والمعونة على ما نرضاه من قول، وأزلف لديه من عمل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.